التفاسير

< >
عرض

إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ
٥٠
قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
٥١
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ
٥٢
قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ
٥٣
وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ ٱلصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ
٥٤
فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ
٥٥
وَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ
٥٦
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ
٥٧
وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ
٥٨
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ سَيُؤْتِينَا ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى ٱللَّهِ رَاغِبُونَ
٥٩
-التوبة

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { هل تربِّصون } بإظهار اللام وتشديد التاء: البزي وابن فليح، وقرأه حمزة وعلي وهشام مدغماً حتى لا يجتمع ساكنان. الباقون: بإظهار اللام وتخفيف التاء { أن تقبل } بالياء التحتانية: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بالفوقانية { مدخلاً } بضم الميم وسكون الدال: سهل ويعقوب. الباقون: بالدال المشددة المتفوحة. { يلمزك } بضم الميم: سهل ويعقوب. الآخرون: بكسرها سوى عباس فإنه مخير.
الوقوف: { تسؤهم } ج لابتداء شرط آخر مع واو العطف { فرحون } ه { لنا } ج للابتداء لفظاً مع الاتحاد معنى { هو مولانا } ط لابتداء إخبار من الله أو الحكاية عنهم. { المؤمنون } ه { الحسنيين } ط للاستئناف بعد تمام الاستفهام { بأيدينا } ط والوصل أصح لأن الفاء جواب { نتربص }{ متربصون } ه { منكم } ط. { فاسقين } ه { كارهون } ه { ولا أولادهم } ط { كافرون } ه { لمنكم } ط { يفرقون } ه { يجمحون } ه { في الصدقات } ط للشرط مع الفاء { يسخطون } ه { ورسوله } لا إلى قوله { راغبون } لأن الكل يتعلق بـ"لو" وجواب "لو" بعد التمام محذوف أي لكان خيراً لهم.
التفسير: هذا نوع آخر من خبث ضمائر المنافقين. عن ابن عباس: الحسنة في قوم بدر والمصيبة في يوم أحد. والأولى حمله على العموم إذ معلوم من حال المنافقين أنهم كانوا في كل حسنة وعند كل مصيبة بالوصف الذي ذكر الله تعالى. ومعنى { أخذنا أمرنا } أي أمرنا الذي نحن موسومون به من التيقظ والتحرر وحسن الرأي والتدبير. و { من قبل } أي من قبل ما وقع { وتولوا } أي عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم أو أعرضوا عن الرسول { وهم فرحون } مسرورون ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول في جوابهم { لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } قيل: أي في اللوح المحفوظ من خير أو شر أو خوف أو رجاء أو شدة أو رخاء. وفائدته أنه إذا علم الإنسان أن الذي وقع امتنع أن لا يقع - لأن خلاف معلوم الله ومقدوره محال - زالت عنه منازعة النفس وهانت عليه المصائب. وقيل: أي في عاقبة أمرنا من الظفر بالعدوّ وإظهار دين الله على كل الأديان فيكون المقصود أن أحوال المسلمين وإن كانت مختلفة في الغم والسرور والمحنة إلا أن العاقبة والدولة تكون لهم والظفر يقع في جانبهم فلا معنى لفرح المنافقين في الحال. وقال الزجاج: معناه لن يصيبنا إلا ما اختصنا الله به من النصرة عليكم أو الشهادة، وعلى هذا القول يقع ما في الآية الثانية كالمكرر { هو مولانا } لا يتولى أمورنا إلا هو يفعل بنا ما يريد من أسباب التهاني والتعازي، لا اعتراض لأحد عليه. { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } فيه تنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يعلق الرجاء إلا برب الأرباب فإنهم يتعلقون بالوسائط والأسباب. ثم أمره بجواب ثانٍ فقال { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين } التربص التمسك بما ينتظر به مجيء حينه ومنه تربص بالطعام إذا تمسك به إلى حين زيادة سعره. والحسنى تأنيث الأحسن وهي صفة الحالة أو الخصلة أو العاقبة يعني النصرة أو الشهادة. وفي الأولى إحراز الغنيمة والظفر بالأعداء، وفي الثانية إبقاء الذكر والفوز بنعيم الآخرة. { ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده } قارعة مثل قارعة عاد وثمود وقيل: عذاب الله يشمل عذاب الدارين { أو بأيدينا } يعني القتل بأن يظهر نفاقكم ويأمر بقتلكم كالكافر الحربي { فتربصوا } أمر للتهديد نحو
{ ذق أنك أنت العزيز الكريم } [الدخان: 49] ثم ذكر أنهم إن أتوا بشيء من صورة البر لم يكن له قدر عند الله ولا ينتفعون به في الآخرة، والغرض أن أسباب الذل والهوان مجتمعة عليهم في الدنيا والأخرى. عن ابن عباس نزلت في الجد بن قيس حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ائذن لي في القعود وهذا مالي أعينك به. ولا يبعد أن يكون السبب خاصاً والحكم عاماً. و { أنفقوا } لفظه أمر ومعناه خبر كقوله فيما يجيء { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } [التوبة: 80] ومعناه أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم واستغفر لهم، أو لا تستغفر لهم وانظر هل ترى اختلافاً بين حال الاستغفار وتركه؟ ومثله قول كثير لعزة:

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

كأنه يقول: امتحني لطف محلك عندي وعامليني بالإساءة والإحسان وانظري هل تجدين مني تفاوتاً في الحالين. وإنما يجوز إقامة الخبر والطلب أحدهما مقام الآخر إذا دل الكلام عليه فيعدل عن الأصل لإفادة المبالغة. وانتصب { طوعاً أو كرهاً } على الحال ومعناه طائعين من غير إلزام من الله ورسوله أو ملزمين من جهتهما. وسمي الإلزام كراهاً لأنهم منافقون فكان إلزام الله إياهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه. ويحتمل أن يراد طائعين من غير إكراه من رؤسائكم أو ملزمين من جهتهم، وذلك أن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملونهم على الإنفاق إذا رأوا فيه مصلحة. ومعنى { لن يتقبل منكم } أن الرسول لا يقبله منكم، أو أنه لا يقع قبولاً عند الله. ثم علل عدم القبول بقوله { إنكم كنتم قوماً فاسقين } قال الجبائي: فيه دليل على أن الفسق يحبط الطاعات. وأجيب بأن الفسق ههنا بمعنى الكفر ولا يلزم منه كون الفسق المطلق كذلك. وإنما قلنا إن الفسق بمعنى الكفر لقوله سبحانه { وما منعهم أن تقبل منهم } الآية علل منع القبول بأمور ثلاثة: أولها: الكفر بالله وبرسوله. وثانيها { ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى } قال المفسرون: معناه أنه إن كان في جماعة صلى وإن كان وحده لم يصل، وفيه أنه يصلي للناس لا لله، وفيه أنه غير معتقد للصلاة ووجوبها فلهذا لزم منه الكفر. وثالثها: { ولا ينفقون إلا وهم كارهون } وذلك أنهم لا ينفقون رغبة في ثواب الله وإنما ينفقون لأجل المصالح الدنيوية، فهم في حكم الكارهين وإن أنفقوا مختارين يعدون الإنفاق مغرماً ومنعه مغنماً خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم" . قيل: الكفر بالله سبب مستقل في منع القبول فكيف ضم إليه الأمرين الآخرين؟ والجواب أنها أمارات ويجوز توارد الأمارت المتعددة على شيء واحد. بوجه آخر أطلق كفرهم أولاً ثم قيده بعدم اعتقادهم وجوب الصلاة والزكاة، وبعبارة أخرى حكم عليهم بالكفر مطلقاً ثم خص من أنواع كفرهم هذين تفظيعاً لشأن تارك الصلاة والزكاة. قال في الكشاف: وقرأت في بعض الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره للمؤمن أن يقول كسلت كأنه ذهب إلى هذه الآية. وأن الكسل من صفات المنافقين. قال بعض العلماء: وجه الجمع بين قوله { فَمَنْ يعمل مثقال ذرة خيراً يره } [الزلزلة: 7] وبين مضمون هذه الآية وهو أن شيئاً من أعمال البر لا يكون مقبولاً عند الله مع الكفر، هو أن يصرف ذلك إلى تأثيره في تخفيف العقاب. ولقائل أن يقول: لو لم يكن مقبولاً بوجه لم يكن له في التخفيف أيضاً أثر. وقيل: في الآية دلالة على أن الصلاة لازمة للكفار وإلا لم يكن الإتيان بها على وجه الكسل مانعاً من تقبل طاعاتهم كما أن قيامهم وقعودهم وسائر تصرفاتهم على وجه الكسل ليس مانعاً من التقبل بالإنفاق. ثم لما قطع رجاء المنافقين عن منافع الآخرة أراد أن يبّين أن ما يظنونه من منافع الدنيا فهو أيضاً في الحقيقة سبب لتعذيبهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم فقال مخاطباً للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد { فلا تعجبك } الآية. ونظيره { ولا تمدّن عينيك } [طه: 131] وإنما قال { فلا تعجبك } بالفاء لأن ما قبله مستقبل يصلح للشرط أي إن يكن فيهم ما ذكرنا من الإتيان بالصلاة على وجه الكسل وغير ذلك فهذا جزاؤه، وهذ بخلاف ما سيجيء في الآية الآخرى من هذه السورة. والإعجاب سرور المرء بالشيء مع نوع من الافتخار واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه، وأنه من البعيد في حكم الله أن يزيل ذلك الشيء عنه ويحصله لغيره كقوله { ما أظن أن تبيد هذه أبداً } [الكهف: 35] ولا شك أن هذه خصلة مذمومة من جهة استغراق النفس في ذلك الشيء وانقطاعها عن الله، ومن جهة استبعاد إزالته في قدرة الله، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "ثلاث مهلكات: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه" والمقصود من الآية زجر الناس عن الانصباب إلى الدنيا والمنع من التهالك في حبها، فإن المسكن الأصلي هو الآخرة لا الأولى. وقوله { إنما يريد الله ليعذبهم } إعرابه كما مر في قوله { يريد الله ليبين لكم } [النساء: 26] قال مجاهد والسدي وقتادة: في الآية تقديم وتأخير والتقدير: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة كأنهم نظروا إلى أن المال والولد لا يكونان عذاباً بل هما من نعم الله تعالى على عباده، وأورد عليه أنهما لا يكونان عذاباً في الآخرة أيضاً. فإن تكلفوا وقالوا: أراد بذلك أنهما سبب العذاب فقد استغنوا عن التقديم والتأخير لأنهما قد يكونان سبباً للعذاب في الدنيا أيضاً. وبوجه أخر، المال والولد وكذا الإعجاب بهما يكونان. في الدنيا لا محالة، فأي فائدة في ذكرها؟ واعلم أن الأموال والأولاد قد يكونان سبباً للتعذيب في الدنيا والآخرة، وذلك أن كل ما كان حبه للشيء أشد كان خوفه عن فواته أكثر وحزنه على فواته أعظم. فصاحب المال أبداً إما في خوف فوات المال وإما في حزن فواته وإما في تعب حفظه وتثميره. ثم إن الدنيا حلوة خضرة فإذا كثر ماله انصب بكليته إليه ويفضي إلى طغيانه وقساوة قلبه إلى أن ينسى حب الله وذكر الآخرة. ثم إنه إن بقي عليه ذلك إلى آخر عمره فعند الموت يعظم أسفه على مفارقته وكان كمن ينتقل من بستان ونعيم إلى سجن وجحيم وعند الحشر يكون حلاله حساباً وحرامه عذاباً فثبت أن حصول المال سبب لعذاب الدارين. إلا من يتصرف فيه بالحق ومثله يكون نادراً، وكذا الكلام في الولد. وهذا المعنى وإن كان عاماً للكل إلا أن المنافقين لهم وجوه اختصاص بالتعذيب. وذلك أن الرجل إذا كان مؤمناً بالله واليوم الآخر علم أنه إنما خلق للآخرة لا للدنيا فيفتر حبه للأمور الدنيوية بخلاف المنافق الذي اعتقد أن لا سعادة إلا هذه الخيرات العاجلة. وأيضاً إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكلفهم إنفاق الأموال وبعث الأولاد إلى الغزو والجهاد، وكانوا لا يعتقدون في ذلك فائدة أخروية، وكانوا في أشق تكليف، وكانوا مبغضين للنبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم كانوا مضطرين إلى بذل المال وبعث الأولاد إلى خدمته، وكانا خائفين من افتضاحهم وإظهار نفاقهم وتعريض أولادهم وأموالهم للنهب والسبي، وكثير منهم كان لهم أولاد أتقياء مخلصون كحنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة، وكعبد الله بن عبد الله بن أبيّ شهد بدراً وكان عند الله بمكان، وهم خلق كثير كانوا يزيفون طريق آبائهم في النفاق ويقدحون فيهم، والابن إذا صار هكذا تأذى الأب بسببه ولأجل هذه المعاني ذكر بعض العلماء أن التقدير: يريد الله أن يزيد في أموالهم ليعذبهم. أما قوله { وتزهق أنفسهم } أي تخرج { وهم كافرون } فقد قالت الأشاعرة: فيه دليل على أنه تعالى أراد منهم الكفر. وأورد الجبائي عليه أن المريض إذا قال للطبيب أريد أن تدخل علي في حالة مرضي لم يلزم منه كونه مريداً لمرض نفسه، والجواب أن أمثال هذه موكولة إلى قرائن الحال ففي قول المريض لا ريب أن المطلوب هو دخول الطبيب، وكون الدخول واقعاً في تلك الحالة من ضرورات كونه مريضاً وهو طبيبه. وفي الآية ليس المراد زهوق الروح فقط لأن المسلم والمنافق في ذلك سيان، فالمراد وقوع الزهوق في حالة الكفر فيكون الكفر منهم مراداً بالضرورة. وقال في الكشاف: المراد الاستدراج بالنعم كقوله { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } [آل عمران: 178] كأنه قيل: ويريد أن يديم عليهم نعمه إلى أن يموتوا وهم كافرون مشغولون بالتمتع عن النظر للعاقبة. ومن قبائح أفعال المنافقين ما حكى الله سبحانه عنهم في قوله { ويحلفون بالله أنهم لمنكم } أي على دينكم. ثم قال { وما هم منكم } أي ليسوا على دينكم. { ولكنهم قوم يفرقون } يخافون القتل فيظهرون الإيمان تقية.
ثم أكد نفاقهم بقوله { لو يجدون ملجأً } مفراً فيتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم لفروا إليه ولفارقوكم. فلا تظنوا أن موافقتهم إياكم في الدار والمسكن من صميم القلب. والمغارات جمع مغارة وهو الموضع الذي يغور الإنسان فيه أي يستتر. والمدخل بالتشديد مفتعل من الدخول أدغمت التاء في الدال لقرب مخرجيهما. والتداخل "تفعل" من الإدخال ومعناه المسلك الذي يتحفظ بالدخول فيه. قال الكلبي وابن زيد: نفق كنفق اليربوع. والمراد أنهم لو وجدوا مكاناً على أحد هذه الوجوه مع أنها شر الأمكنة { لولوا إليه } يقال: ولي إليه بنفسه إذا انصرف وولي غيره إذا صرفه { وهم يجمحون } أي يسرعون إسراعاً لا يرد وجوهم شيء. ومنه الفرس الجموح لا يرده اللجام. والحاصل أنهم من شدة تأذيهم وتنفرهم من الرسول والمسلمين صاروا بهذه الحالة. قال بعض العلماء: إنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء والأقرب حملها على المعاني المتغايرة، فالملجأ الحصون، والمغارات الكهوف في الجبال، والمدخل السرب تحت الأرض كالآبار والله تعالى أعلم. ومن جملة قبائحهم قوله { ومنهم من يلمزك } الآية. قال الزجاج: لمزت الرجل ألمزه وألمزه بكسر الميم وضمها إذا عبته. وفرق الليث فقال: اللمز العيب في الحضور، والهمز العيب في الغيبة، واعلم أن العيب في الصدقات يحتمل وجوهاً: الأول: في أخذها بأن يقال انتزاع كسب الإنسان من يده غير معقول لأن الله هو المتكفل بمصالح عبيده إن شاء أفقرهم وإن شاء أغناهم. الثاني: أن يقال: هي أنك تأخذ الزكوات إلا أن ما تأخذه كثير فوجب أن تقنع بأقل من ذلك. الثالث: هب أنك تأخذ هذا الكثير إلا أنك تصرفه إلى غير مصرفه فيكون العيب قد وقع في قسمة الصدقات وفي تفريقها وهذا هو الذي دلت الأخبار على أنهم أرادوه. عن أبي سعيد الخدري
"بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين قال له ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج: أعدل يا رسول الله. فقال: ويلك ومن يعدل إذ لم أعدل" فنزلت. وعن الكلبي هو أبو الجواظ قال: ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم وهو يزعم أنه يعدل. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أبا لك أما كان موسى راعياً. أما كان داود راعياً فلما ذهب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون" . وقيل: هم المؤلفة قلوبهم. ثم بيّن أن عيبهم ذلك وسخطهم لأجل نصيب نفسهم لا للدين فقال { فإن أعطوا منها رضوا } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون. ومعنى { إذا هم يسخطون } فهم يسخطون. وفائدته أن يعلم أن الشرط مفاجىء للجزاء ومتهجم عليه. ثم أرشدهم إلى ما صلاحهم في نفس الأمر فقال { ولو أنهم رضوا } الآية ورتبه على أربع مراتب: الأولى: الرضا بما آتاهم الله ورسوله لعلمهم بأنه تعالى حكيم يعلم عواقب الأمور، فكل ما كان حكماً له وقضاء منه كان حقاً وصواباً ولا اعتراض عليه. الثانية: أن يظهر أثر ذلك الرضا على لسانهم وهو قولهم { حسبنا الله } كفانا فضله وصنعه، لغيرنا المال ولنا الرضا والتسليم وذكر الحبيب. الثالثة: أن نزل من هذه المرتبة العالية كان واثقاً بأن الله لا يهمله وسيعوضه من فضله في غنيمة أخرى. الرابعة الرغبة إلى الله بأنه المقصد الحقيقي والمقصود الأصلي من الإيمان والطاعة والمال والمنال. يروى أن عيسى عليه الصلاة والسلام مر بقوم يذكرون الله فقال: ما الذي يحملكم عليه؟ قالوا: الخوف من عقاب الله. فقال: أصبتم. ومر على قوم آخرين يذكرون الله فقال: ما الذي حملكم عليه؟ فقال: الرغبة في الثواب. فقال: أصبتم. ومر على قوم ثالث مشتغلين بالذكر فسأهلم فقالوا: لا نذكره للخوف من العقاب ولا للرغبة في الثواب بل لإظهار ذلة العبودية وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته وتشريف اللسان بذكره. فقال: أنتم المحقون.
التأويل: { أن تصبك } يا روح { حسنة } من عواطف الحق تحزن النفس وصفاتها فبها تظفر الروح عليها { وإن تصبك مصيبة } من الموانع والقواطع أخذنا نصيبنا من المراتع الحيوانية لما خالفناه في السير في العالم الروحاني. { قل } يا روح { لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } لا علينا فإن الفترات والوقفات للتربية لا للرد. وانظر وقل { هل تربصون بنا } أيتها النفس وصفاتها { إلا إحدى الحسنيين } الإحسان والعواطف الربانية والوقفة والفترة الموجبة لحسن التربية { بعذاب من عنده } هو الابتلاء بالمصائب من الخوف والجوع وغيرهما { أو بأيدينا } بالمنع من المخالفات وبكثرة الرياضيات والمجاهدات { طوعاً } أو رياء { وكرهاً } أي نفاقاً { لن يتقبل منكم } لأن أعمال اللسان وغيره من الجوارح من غير عمل القلب ليست بمقبولة وإن كان عمل القلب بدون الجوارح مقبولاً لقوله صلى الله عليه وسلم
"نية المؤمن أبلغ من عمله" وباقي الآيات إشارات إلى أن من أمارات النفاق عدم الرضا بقسمة الخلاق وحال المخلص بالعكس.