التفاسير

< >
عرض

وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا
١
وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا
٢
وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا
٣
وَٱللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا
٤
وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا
٥
وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا
٦
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا
٧
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا
٨
قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا
٩
وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا
١٠
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ
١١
إِذِ ٱنبَعَثَ أَشْقَاهَا
١٢
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقْيَاهَا
١٣
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا
١٤
وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا
١٥
-الشمس

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { تلاها } و { طحاها } مثل { دحاها } مثل { دحاها } [الآية: 30] في " النازعات " { فلا يخاف } بالفاء وضم الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير بناء على أن { قد أفلح } جواب القسم واللام محذوف أي لقد أفلح.
الوقوف: { وضحاها } ه لا { تلاها } ه ك { جلاها } ه ك { يغشاها } ه ك { بناها } ه ك { طحاها } ه ك { سوّاها } ه لا ص { وتقواها } ه لا { زكاها } ه ك { دساها } ه ط { بطغواها } ه ط لأن الظرف يتعلق بـ { كذب } أو بالطغوى { أشقاها } ه { وسقياها } ه { فعقروها } م ط { فسوّاها } ه ط { عقباها } ه.
التفسير: قال النحويون: إن في ناصب { إذا تلاها } وما بعده إشكالاً لأن " ما " سوى الواو الأولى إن كن للقسم لزم اجتماع أقسام كثيرة على مقسم به واحد وهو مستنكر عند الخليل وسيبويه، لأن استئناف قسم آخر دليل على أن القسم الأول قد استوفى حقه من الجواب فيلزم التغليظ، وإن كن عاطفة لزم العطف على عاملين بحرف واحد وذلك أن حرف العطف ناب عن واو القسم المقتضي للجر وعن الفعل الذي يقتضي انتصاب الظرف. والجواب أنا نختار الثاني ولزوم العطف على عاملين ممنوع لأن حرف العطف ناب عن واو القسم النائب عن الفعل المتعدّي بالباء، وكما أن واو القسم تعمل الجر في القسم والنصب في الظرف إذا قلت مثلاً ابتداء
{ والليل إذا يغشى } [الليل: 1] لقيامه مقام قولك " اقسم بالليل إذا يغشى" فكذا حرف العطف النائب منابه نظيره قولك " ضرب زيد عمراً وبكر خالداً " فترفع بالواو وتنصب لقيامه مقام ضرب. قال بعض المتكلمين: المضاف في هذه الأقسام محذوف تقديره ورب الشمس إلى آخرها. وزيف بلزوم التكرار في قوله { وما بناها } وما بعده. وأجيب بأن " ما " في { وما بناها } وما بعده مصدرية. واعترض عليه في الكشاف بأنه يلزم من عطف قوله { فألهمهما } على قوله { وما سوّاها } فساد النظم فالوجه أن تكون " ما " موصولة. وإنما أوثرت على " من " لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل: والسماء والقادر العظيم الذي بناها، ونفس والحكيم الذي سوّاها، على أنه قد جاء " ما " مستعملاً في " من " كقولهم " سبحان ما سخركن لنا ". أما الذين لم يقدروا المضاف فأورد عليهم أنه يلزم تأخير القسم برب السماء وبانيها عن القسم بالسماء. والجواب أن الله عز قائلاً أراد أن نتدرج من المحسوسات إلى المعقولات ومن المصنوعات إلى الصانع، ولا يخفى أن المحسوسات أظهرها هو الشمس فذكرها سبحانه مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمتها. فأول أعظم الأوصاف الضوء الحاصل منها عند ارتفاع النهار، وثانيها تلو القمر لها غاية في منتصف الشهر أو تلوه لها في أخذ الضور عنها أو في غروبه ليلة الهلال بعدها قاله قتادة والكلبي. وقيل: في كبر الجرم بحسب الحس وفي ارتباط مصالح هذا العالم بحركته. والثالث والرابع بروزها لمجيء النهار واختفاؤها لمجيء الليل. ثم ذكر ذاته المقدسة وعقبه بأنواع تدابيره في السماء والأرض وفي البسائط وما يتركب منها وأشرفها النفس. ولنشتغل بتفسير بعض الألفاظ. قال الليث: الضحو ارتفاع النهار والضحى فوق ذلك. والضحاء بالمد إذا امتد النهار وقرب أن ينتصف. وتلاها تبعها بإحدى المعانى المذكورة، والتجلية الكشف والعيان. والضمير في { جلاها } للشمس في الظاهر على ما قال الزجاج وغيره، لأن النهار كلما كان أصدق نوراً كانت الشمس أجلى ظهوراً فإن الكشف والعيان يدل على قوة المؤثر وكماله لا قوة الأثر وكماله، فكان النهار يبرز الشمس ويظهرها. وذهب جم غفير إلى أن الضمير يعود إلى الظلمة أو الدنيا أو الأرض بدلالة قرائن الأحوال وسياق الكلام، ولعل الوجه الأول أولى لأن عود الضمير إلى المذكور أقرب منه إلى المقدر، ولأنه يلزم تفريق الضمائر في { يغشاها } للشمس بالاتفاق وكذا في { ضحاها } و { تلاها } ولأن غشيان الليل الشمس عبارة عن ذهاب الضوء وحصول الظلمة بسبب غيبة الشمس في الأفق، فكذا تجلية النهار إياها يجب أن تكون إشارة إلى كمال الضوء وظهوره للحس بواسطة ظهور الشمس فوق الأفق. والحاصل أن الذهن كما ينتقل من عدم الأثر إلى عدم المؤثر فجعل كأن لعدم الأثر تأثيراً في عدم المؤثر، فكذلك ينتقل من وجود الأثر إلى وجود المؤثر فيصح أن يقال: إن وجود الأثر علة لوجود المؤثر وهذا معنى كون النهار مجلياً للشمس. والطحو مثل الدحو وقد مر في " النازعات " أي بسطها على الماء. وتنكير النفس إما للتنويع أي نفس خاصة من بين النفوس وهي النفس القدسية النبوية التي تصلح لرياسة ما سواها من النفوس، وإما للتكثير على الوجه المذكور في قوله { علمت نفس ما أحضرت } [التكوير: 14] وتسويتها إعطاء قواها بحسب حاجتها إلى تدبير البدن وهي الحواس الظاهرة والباطنة والقوى الطبيعية المخدومة والخادمة وغيرها { فألهمها فجورها وتقواها } قالت المعتزلة: هو كقول { وهديناه النجدين } [البلد: 10] أي علمناه وعرفناه سلوك طريقي الخير والشر ويعضده ما بعده { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } والتدسية ضد التزكية. وأصل دسي دسس قلب أحد حرفي التضعيف ياء كما في " قضيت ". والتدسيس مبالغة الدس وهو الإخفاء في التراب قال عز من قائل { أم يدسه في التراب } [النحل: 59] والضمير في " زكى " و " دس " ل " من " وقال أهل السنة: الضمير أن لله تعالى و" من " عبارة عن النفس والمعنى: قد سعدت نفس زكاها الله تعال وخلقها طاهرة، وخابت نفس دساها الله وخلقها كافرة فاجرة. وقد يروى هذا الوجه عن سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومقاتل والكلبي قالوا: أصل الإلهام من قولهم " لهم الشيء والتهمة " إذا ابتلعه و" ألهمته إياه " أي أبلعته ذلك. فالإلهام الإبلاع أي وضع الإيمان في قلب المؤمن والكفر في قلب الكافر. ثم وعظهم بقصة ثمود لقربها من ديارهم. ولأهل التأويل أن يقولوا: إنما خص هذه القصة لأن ناقة الله هي البدن وعبر بصالح عن الروح، ولما كانت قصة ثمود مناسبة لأحوال النفس الإنسانية كما مرت في التأويلات، وكانت هذه السورة مسوقة لبيان مراتب النفس في السعادة والشقاوة،وخصت القصة بالذكر لذلك، وعلى هذا التأويل قد يراد بالشمس تجلي النفس الناطقة على البدن بالتدبير الكامل، وبالقمر الروح الحيواني. أو شمس المعرفة، وقمر المكاشفة، ونهار وليل المحو، وسماء الروح وأرض القلب كما مر مراراً. والطغوى اسم من الطغيان كالتقوى من الوقاية قلبت ياؤه واواً فرقاً بين ما هي اسم وبين ما هي صفة كقولهم " امرأة خزياً وصدياً " والباء للآلة أي فعلت التكذيب بواسطة طغيانها. وقيل: المضاف محذوف والمجموع صفة للعذاب والباء للإلصاق أي كذبت ثمود بما أوعدت من العذاب ذي الطغوى كقوله { فأهلكوا بالطاغية } [الحاقة: 5] والأول أوضح لئلا يكون قوله { فكذبوه } تكراراً. ومعنى { انبعث } تحركت داعيته وقوي عزمه على العقر. { وأشقاها } عاقر الناقة قدار بن سالف، أو هو مع من ساعده على ذلك فإن أفعل التفضيل يجوز أن لا يفرق فيه بين الواحد. والجمع وعلى هذا يجوز أن يكون الضمير في { لهم } عائداً إلى الجماعة الأشقياء، وعلى الأول يكون عائداً إلى قوم صالح. و{ ناقة الله } نصب على التحذير أي احذروا عقرها { وسقياها } فلا تعتدوا بها فإن لها شرباً ولكم شرب يوم { فكذبوه } فيام أوعدهم به من نزول العذاب إن فعلوا فعقروا الناقة { فدمدم } أي فأطبق { عليهم } العذاب. قالوا: هو مضعف من قولهم " ناقة مدمدمة " إذا ألبست الشحم. والباء في { بذنبهم } للسببية فسوى الدمدمة بينهم بحيث لم يهرب منها أحد { ولا يخاف عقباها } كما يخاف ملوك الدنيا فينزجر عن استيفاء العقوبة. وجوز أن يكون الضمير لثمود أي فسوّاها بالأرض، أو في الهلاك ولا يخاف تبعه بهلاكها وهو تعالى أعلم.