التفاسير

< >
عرض

وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ
١
وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ
٢
وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ
٣
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ
٤
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ
٥
وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ
٦
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ
٧
وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ
٨
وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ
٩
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ
١٠
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ
١١
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ
١٢
وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَٱلأُولَىٰ
١٣
فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ
١٤
لاَ يَصْلَٰهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى
١٥
ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
١٦
وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى
١٧
ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ
١٨
وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ
١٩
إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ
٢٠
وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ
٢١
-الليل

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { ناراً تلظى } بتشديد التاء: البزي وابن فليح.
الوقوف: { يغشى } ه لا { تجلى } ه لا { والأنثى } ه لا { لشتى } ه ط { واتقى } ه لا { بالحسنى } ه لا { لليسرى } ه ط { واستغنى } ه لا { بالحسنى } ه لا { للعسرى } ط { تردّى } ه ط { للهدى } ه ز للعطف مع رعاية جانب " أنّ " والوصل أجوز لإتمام الكلام { والأولى } ه { تلظى } ه ج لأن ما بعده صفة أو استئناف { الأشقى } ه لا { وتولى } ه ط { الأتقى } ه لا { يتزكى } ه ج لأن ما بعده استئناف أو حال { تجزى } ه { الأعلى } ه ج لاختلاف الجملتين { يرضى } ه.
التفسير: هذه السورة نزلت باتفاق كثير من المفسرين في أبي بكر وفي أبي سفيان ابن حرب أو أمية بن خلف، إلا أن المعنى على العموم لقوله تعالى { إن سعيكم لشتى فأنذرتكم } ومفعول { يغشى } محذوف وهو إما الشمس كقوله تعالى
{ { والليل إذا يغشاها } [الآية: 4] أو النهار أ كل شيء يمكن تواريه بالظلام. أقسم سبحانه بالليل والنهار اللذين بتعاقبهما يتم أمر المعاش والراحة مع أنهما آيتان في أنفسهما. ومعنى { تجلى } ظهر بزوال ظلمة الليل وتبين بطلوع الشمس ثم بذاته الذي خلق كل شيء ذي روح لأن الروح إما ذكر أو أنثى، والخنثى المشكل معين في علم الله وإن كان مبهماً في علمنا ولهذا قال الفقهاء: لو حلف بالطلاق أنه لم يلق يومه ذكراً ولا أنثى وقد لقي خنثى مشكلاً حنث. وقيل: هما آدم وحواء { شتى } جمع شتيت وهو المتفرق المختلف. ثم بين اختلاف الأعمال في ذاتها وفيما يرجع إليها في العاقبة من الثواب والعقاب أو التوفيق والخذلان. "عن علي رضي الله عنه أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدنا حوله فقال ما منكم نفس منفوسة إلا وقد علم مكانها من الجنة والنار. فقلنا: يا رسول الله أفلا نتكل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ { فأمّا من أعطى }" يعني حقوق ما له { واتقى } المحارم { وصدّق } بالخصلة الحسنى وهي الإيمان أو كلمة الشهادة أو بالملة الحسنى أوبالمثوبة { فسنيسره } فسنهيئه للطريق اليسرى. يقال يسر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها. ومعنى استغنى أنه رغب عما عند الله كأنه مستغن، أو استغنى باللذات العاجلة عن الآجلة. والتحقيق فيه أن الأعمال الفاضلة إذا واظب المكلف عليها حصلت في نفسه ملكة نورانية تسهل عليه سلوك سبيل الخيرات حتى يصير التكليف طبعاً. والتعب راحة والتكليف عادة، ولأن هذه الملكة تحصل بالتدريج فلا جرم أدخل الفاء في { فسنيسره } ومن فسر اليسرى بالجنة فمعنى الاستقبال عنده واضح. والرذائل بالضد حتى تصير النفس من الكسل بحيث لا تواتي صاحبها إلا في مواجب الكسل وجذب الراحات العاجلة كقوله { { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } [البقرة: 45] { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } [النساء: 148] ويقرب مما ذكرنا قول القفال: كل ما أدت عاقبته إلى يسر وراحة وأمور محمودة فإن ذلك من اليسرى وذلك وصف كل الطاعات، وكل ما أدّت عاقبته إلى عسر وتعب فهو من العسرى وذلك وصف كل المعاصي، ومن جملة اليسرى الجنة ومن جملة العسرى النار. استدل بعض الأشاعرة بقوله { فسنيسره للعسرى } على أنه تعالى قد يخلق القبائح في المكلف ويقوي دواعيه على فعلها. والمعتزلة عبروا عن هذا التيسير بالخذلان وعن الأول بمنح الألطاف والتوفيق. ثم وبخ هذا الكافر بقوله { وما يغني عنه ماله } وهو استفهام في معنى النفي أي لا ينفعه ماله الذي بخل به { إذا تردّى } أي مات من الردى وهو الهلاك. ويجوز أن يكون من قولهم " تردّى من الجبل" أي تردّى من الحفرة في القبر أو في قعر جهنم. استدل المعتزلة بقوله { إن علينا للهدى } على أنه تعالى أزاح الأعذار وما كلف المكلف إلا ما في سعته وطاقته، وعلى أنه يجب على الله الهداية، وعلى أن العبد لو لم يكن مستقلاً بالإيجاد لما كان في وضع الدلائل فائدة. وأجوبة أهل السنة عن المسائل الثلاث معلومة. ونقل الواحدي عن الفراء وجهاً آخر وهو أن المراد إن علينا للهدى والإضلال فاقتصر كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [النحل: 81] وأكدوا ذلك بما روي عن ابن عباس في رواية عطاء أن معنى الآية أرشد أوليائي إلى العمل بطاعتي وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي. ثم بين بقوله { وإن لنا للآخرة والأولى } أن لله كل ما في الدنيا والآخرة فلا يضره عصيان العاصين ولا ينفعه طاعة المطيعين، وإنما يعود ضره أو نفعه إليهم. ويمكن أن يراد أن سعادة الدارين تتعلق بمشيئته وإرادته فيعطي الهداية من يشاء ويمنعها من يشاء. والأول أوفق للمعتزلة والثاني للأشاعرة. ثم ذكر نتيجة المواعظ المذكورة قائلاً { فأنذرتكم ناراً تلظى } يعني إذا عرفتم هذه البيانات الوافية والتقريرات الشافية فقد صح إني أنذرتكم، ويجوز أن يراد بالمضيّ تحقق الوقوع. والمعنى على الاستقبال أي إذا تقررت مراتب النفوس الإنسانية وعرفتم درجاتها ودركاتها فإني أنذرتكم ناراً تلظى تتلهب وتتوقد وأصله تتلظى حذف إحدى التاءين. ثم إن كان المراد بالأشقى هو أبو سفيان أو أمية وبالأتقى هو أبو بكر فلا إشكال وتتناول الآية غيرهما من الأشقياء والأتقياء بالتبعية إذ لا عبرة بخصوص السبب، وإن كان المراد أعم فإن أريد بهم الشقي والتقي فلا إشكال أيضاً، وإن أريد حقيقة أفعل التفضيل فإما أن يراد نار مخصوصة بدلالة التنكير، وإما أن يراد بالأشقى الكافر على الإطلاق لأنه أشقى من الفاسق. وأما الكلام في الأتقى فنقول: إنه لا يلزم من تخصيصه بالذكر نفي ما عداه. قال جار الله: هذا الكلام وارد على سبيل المبالغة فجعل الأشقى مختصاً بالصلى كأن النار لم تخلق إلا له، وجعل الأتقى مختصاً بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له. وقوله { يتزكى } أي يطلب أن يكون عند الله زاكياً، أو هو من الزكاة لا محل له لأنه بدل من { يؤتى } والصلة لا محل لها لأنها كبعض الكلمة، أو هو منصوب المحل على الحال. قال بعض المفسرين: إن بلالاً كان يعذب في الله وهو يقول أحد أحد، فسمع بذلك أبو بكر فحمل رطلاً من ذهب فابتاعه به فقال المشركون: ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده فنزل { وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء } قال أكثر النحويين: هذا الاستثناء منقطع لأن الابتغاء ليس من جنس النعمة. وقال الفراء: وهو مفعول له من { يؤتى } على المعنى أي لا ينفق ماله إلا ابتغاء رضوان الله لا لمكافأة نعمة { ولسوف يرضى } عن الله أو يرضى الله عنه فيكون راضياً مرضياً. واعلم أن بعض الشيعة زعموا أن السورة نزلت في عليّ رضي الله عنه لقوله { يتزكى } لأنه قال في موضع آخر { ويؤتون الزكاة وهم راكعون } [المائدة: 55] وقال بعض أهل السنة: إنها تدل على أفضلية أبي بكر لأنه قال في وصف عليّ وسائر أهل البيت رضي الله عنهم { ويطعمون الطعام } [الدهر: 8] إلى قوله { إنا نخاف } [الدهر: 10] وذكر في صفة أبي بكر أنه لا ينفق إلا لوجه الله من غير شائبة رغبة أو رهبة، وهذا المقام أعلى وأجل. وعندي أن أمثال هذه الدلائل لا تصلح لترجيح أكابر الصحابة بعضهم على بعض، وأن نزول هذه السورة في الشخص الفلاني مبني على الرواية فلا سبيل للاستدلال إليه، وإليه المرجع والمآب والله أعلم.