التفاسير

< >
عرض

ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ
١
خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ
٢
ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ
٣
ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ
٤
عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ
٥
كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ
٦
أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ
٧
إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰ
٨
أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ
٩
عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ
١٠
أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَىٰ ٱلْهُدَىٰ
١١
أَوْ أَمَرَ بِٱلتَّقْوَىٰ
١٢
أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
١٣
أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ يَرَىٰ
١٤
كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِٱلنَّاصِيَةِ
١٥
نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ
١٦
فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ
١٧
سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ
١٨
كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب
١٩
-العلق

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { اقرأ } بالألف: الأوقية والأعشى وحمزة في الوقف { رآه } ممالة مكسورة الراء: حمزة وعلي وخلف ويحيى وعباس والخزار وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل والنقاش عن ابن ذكوان. وقرأ أبو عمرو غير عباس والنجاري عن ورش بفتح الراء وكسر الهمزة. روى ابن مجاهد وأبو عون غير قنبل مفتوحة الراء مقصورة على وزن" رعه ".
الوقوف: { الذي خلق } ه ج لاتباع صلة بلا عطف فإن الجملة الثانية مفسرة للأولى المبهمة، ولو جعل المعنى الذي خلق كل شيء ثم خص خلق الإنسان ازداد الوقف حسناً { علق } ه ج لأن { اقرأ } يصلح مستأنفاً وتكراراً للأول { الأكرم } ه لا { بالقلم } ه لا { يعلم } ه لا { ليطغى } ه لا { استغنى } ه ط { الرجعى } ه ط { ينهى } ه لا { صلى } ه ط { الهدى } ه لا { بالتقوى } ه ط { وتولى } ه ط { يرى } ه لا { خاطئة } ه لا { ناديه } ه لا { الزبانية } ه لا { كلا } ط على الردع { واقترب } ه.
التفسير: وقد مر في أوائل الكتاب أن أكثر المفسرين زعموا أن هذه السورة أول ما نزل من السماء. وفي الباء وجهان: الأول إنها زائدة وزيف بأنه خلاف الأصل وبأن معناه حينئذ: اذكر اسم ربك فلا يحسن من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: ما أنا بقارىء كما جاء في الحديث، وبأنه كتحصيل الحاصل لأنه لم يكن له شغل سوى ذكر الله. والثاني وهو الأصح أنه نصب على الحال أي اقرأ القرآن مفتتحاً أو متلبساً باسم ربك وهو لغو. والباء للآلة وقد مر وجهه في تفسير البسملة. وكذا وجه من جعله متعلقاً بـ { قرأ } الثانية أي استعن باسم ربك واتخذه آلة في تحصيل هذا الذي عسر عليك. وقيل: هي بمعنى اللام أي اجعل هذا الفعل واقعاً لله كقولك " بنيت الدار باسم الأمير". " وصنفت الكتاب باسم الوزير". فالعبادة صارت لله تعالى لم يكن للشيطان فيها نصيب. وفي تخصيص الرب بالذكر في هذا الموضع معنيان: أحدهما ريبتك فلزمك القضاء والشكر فلا تتكاسل. والثاني أن الشروع ملزم للإتمام وقد ربيتك منذ كذا فكيف أضيعك بعد هذا فلا تفزع. ثم دل على كونه رباً بقوله { الذي خلق } أطلق الخلق أولاً ليتناول كل المخلوقات، ثم خص الإنسان بالذكر لشرفه أو لعجيب فطرته، أو لأن سوق الآية لأجله. ويجوز أن يكون الأول متروك المفعول إشارة إلى أنه لا خالق سواه ولا يتصف بهذا الاسم غيره، وحينئذ يستدل به على إبطال مذهب المعتزلة في أن العبد خالق أفعال نفسه. قال أهل العلم: إن الحكيم إذا أراد أمر استعمل فيه التدريج كما يحكى أن زفر حين بعثه أبو حنيفة إلى البصرة لتقرير مذهبه لم يلتفتوا إلى قوله وأبو عن قبوله، فرجع إلى أبي حنيفة وأخبره بذلك فقال: إنك لم تعرف طريق التبليغ لكن ارجع إليهم واذكر في المسألة أقاويل المتهم ثم بين ضعفها ثم قل بعد ذلك ههنا قول آخر واذكر قولي وحجتي، فإذا تمكن ذلك في قلبهم قل هذا قول أبي حنيفة فإنهم يقبلونه حينئذ. والمقصود من الحكاية أن الله تعالى كان يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم هؤلاء عبدة الأوثان والفطام من المألوف شديد، فلو خالفتهم أول مرة وصرحت عن محض الحق أبوا أن يقبلوه فاذكر لهم أولاً أنّهم المخلوقون من العلقة فلا يمكنهم الإنكار، ثم قل ولا بد للفعل من فاعل فلا يمكنهم أن يضيفوا ذلك إلى الوثن لعلمهم بأنهم نحتوه، فإذا تأملوا أنصفوا أن من لم يخلق لم يكن إلهاً، والعلق جمع العلقة وإنما لم يقل علقة لأن الإنسان في معنى الجمع وفي تكرار اقرأ وجوه: اقرأ لنفسك ثم اقرأ للتبليغ أو اقرأ في خارج صلاتك، أو الأول للتعلم والثاني للتعليم وهذا قريب من الأول. والأوجه أن يراد بالأول أوجد القراءة ويكون قوله { باسم ربك } متعلقاً بـ { اقرأ } الثاني كما مر في تفسير البسملة، قلت: ويمكن أن يكون الأول إشارة إلى كونه قارئاً بالقوة ولهذا رتب عليه خلق الإنسان من علق، والثاني إشارة إلى كونه قارئاً بالفعل ولهذا وصف نفسه بالأكرمية ورتب عليه تعليم الخط والعلم. وفضائل الخط كثيرة حتى مدح بالرسائل والأشعار وكفاك في مدحه أنه تعالى حين عدد على الإنسان نعمة الخلق والتسوية وتعديل الأعضاء الظاهرة والباطنة وصف نفسه بالكرم قائلاً
{ ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك } [الانفطار: 6] وحيث من عليه بالخط والتعليم مدح ذاته بالأكرمية فقال متعرضاً { وربك الأكرم الذي علم بالقلم } أي علم الإنسان بواسطة القلم أو علمه الكتابة بالقلم. يروى أن سليمان عليه السلام سأل عفريتاً عن الكلام فقال: ريح لا يبقى. قال: فماقيده؟ قال: الكتابة فإن القلم صياد يصيد العلوم يبكي تارةً ويضحك بركوعه يسجد الأنام وبحركته تبقى العلوم على ممر الليالي والأيام، وقوله { علم الإنسان ما لم يعلم } يجوز أن يكون بياناً للأول أي علمه بالقلم كقول القائل " أحسنت إليك ملكتك الأموال وليتك الولايات." ويحتمل أن يراد علم بالقلم وعلمه أيضاً غير ذلك. وفي الآية إشارة إلى إثبات العلوم السمعية الموقوفة على النقل والكتابة بل إلى إثبات النبوة كما أن أول السورة يدل على الأوصاف الإلهية. قوله سبحانه { كلا } ذكر بعض العلماء أنه بمعنى حقاً لأنه ليس قبله ولا بعده شيء يتوجه إليه الردع. وقال صاحب الكشاف: إنه ردع لمن كفر بنعمة الله عليه وطغى وهذا معلوم من سياق الكلام وإن لم يذكر. وقال مقاتل: كلا لا يعلم الإنسان أنه خلق من علقة وصار عالماً بعد أن كان جاهلاً وذلك لاستغراقه في حب المال والجاه فلا يتأمل في هذه الأحوال. ومعنى { أن رآه } لأن رأى نفسه فحذف حرف الجر على القياس، وحذف النفس لخاصيتة فعل القلب وهي جواز الجمع بين ضميري الفاعل والمفعول فيه. وأكثر المفسرين على أن المراد بالإنسان ههنا إنسان واحد هو أبو جهل. ومنهم من يقول: خمس آيات من أول هذه السورة نزلت أولاً ثم نزل باقيها في أبي جهل بعد ذلك بزمان فضم إليها وقيل: نزلت فيه من قوله { أرأيت الذي ينهى } إلى آخر السورة والإنسان عام فإن قيل: لم قال في حق فرعون { إنه طغى } [النازعات: 17] وفي حق أبي جهل { ليطغى } قلنا: إنما أخبر بذلك عن فرعون قبل أن يلقاه موسى وقبل أن يعرض عليه الأدلة، وأما هذه الآية فنزلت تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حين رد أبو جهل عليه أقبح الرد. وأيضاًً إن فرعون مع كامل سلطتته ما كان يؤذي موسى إلا بالقول وأبو جهل مع قلة جاهه كان يقصد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وفرعون كان قد أحسن إلى موسى أولاً وقال آخراً { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } [يونس: 9] وأما أبو جهل فكان يحسد النبي صلى الله عليه وسلم في صباه وقال في آخر عمره: بلغوا عني محمداً أني أموت ولا أجد أبغض إليّ منه. وأيضاً إنهما وإن كانا رسولين لكن الحبيب في مقابلة الكليم كاليد في مقابلة العين، والعاقل يصون عينه فوق ما يصون يده بل يصون عينه باليد فلهذا كانت المبالغة ههنا أكثر. واعلم أن المال ليس سبباً للطغيان على الإطلاق ولهذا ذهب جم غفير إلى أن الإنسان في الآية مخصوص وكيف لا وإنه لم يزد سليمان عليه السلام إلا تواضعاً وعبودية. روي أنه كان يجالس المساكين ويقول: مسكين جالس مسكيناً. وكان عبد الرحمن بن عوف من كبار الصحابة كثير المال، وقال صلى الله عليه وسلم " "نعم المال الصالح للرجل الصالح" " ولو أنصف العاقل وتأمل وجد نفسه في حال الغنى أشد افتقاراً إلى الله لأن الفقير لا يتمنى إلا سلامة نفسه والغني يتمنى سلامة نفسه وماله وأهله وجاهه: وقيل: السين في { استغنى } للطلب والمعنى أن الإنسان قد ينسى فضل الرب وعنايته في حالة أن رآه طلب الغنى فنال المنى بسبب الجهد والكد فينسب ذلك إلى كفاءته لا إلى عناية الله، ولم يدر أنه كم من باذل وسعة في الحرص والطلب لم يحصل إلا على خفي حنين، وأنه تعالى قد يرجع الغني آخر الأمر إلى حالة الفقر ليتحقق أن ذلك الغني لم يكن بفعله وكسبه، وإنما ذلك بحول الله وقوته. وههنا نكتة وهي أن أول السورة دل على فضيلة العلم وبعدها دل على مذمة المال فكفى ذلك مرغباً في العلم ومنفراً عن الدنيا. وفي قوله { إن إلى ربك } يا إنسان { الرجعى } أي الرجوع وعيد وتذكير كأنه قيل: مصيرك إلى الله وإلى حيث لا يدفع عنك المال والكسب فما هذه الحيلة والعصيان والكبر والطغيان؟ يروى أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتزعم أن من استغنى طغى فاعل لنا جبال مكة فضة وذهباً لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك فنزل جبرائيل فقال: يقول الله إن شئت فعلنا ذلك، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا ذلك، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء إبقاء عليهم. وروي أن أبا جهل لعنه الله قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم قال: فوالذي يحلف به لئن رأيته توطأت عنقه فجاءه، وهو صلى الله عليه وسلم في الصلاة ثم نكص على عقبيه فقالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار فنزلت { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } أي أخبرني عمن ينهي بعض عباد الله وهذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم على وجه التعجب، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهم أعز الإسلام بعمر أو بأبي جهل بن هشام" ، وكأنه تعالى قال له: يا محمد كنت تظن أنه يعز به الإسلام وهو ينهى عن الصلاة التي هي أول أركان الإسلام وكان يلقب بأبي الحكم فقيل له: كيف يليق به هذا اللقب وهو ينهى العبد عن خدمة ربه ويأمر بعبادة الجماد؟ وفي تنكير العبد دلالة على التفخيم كأنه قال: هو عبد لا يكتنه كنه إخلاصه في العبودية ولا يوصف شرح أخلاقه بالكلية. يروى أن يهودياً من فصحاء اليهود جاء إلى عمر في أيام خلافته وقال: أخبرني عن أخلاق رسولكم. فقال عمر: اطلب من بلال فهو أعلم به مني. ثم إن بلالاً دل على فاطمة عليها السلام وهي دلته على علي رضي الله عنه. فلما سأل علياً رضي الله عنه قال: صف لي متاع الدنيا حتى أصف لك أخلاقه. فقال اليهودي: هذا لا يتيسر لي فقال علي رضي الله عنه: عجزت عن وصف الدنيا وقد حكم الله بقلته حيث قال { قل متاع الدنيا قليل } [النساء: 77] فكيف أصف أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وقد شهد الله بأنه عظيم في قوله { وإنك لعلى خلق عظيم } [القلم: 4] والحاصل أنه سبحانه كأنه قال: ما أجهل من ينهى أشد الخلق عبودية عن الصلاة، والنهي عن الصلاة مذموم عند العقلاء. "يروى أن علياً رضي الله عنه رأى في المصلى أقواماً يصلون قبل صلاة العيد فقال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك فقيل له: ألا تنهاهم؟ فقال: أخشى أن أدخل تحت قوله { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى }" فلم يصرح بالنهي. وأخذ أبو حنيفة منه هذا الأدب الجميل حين قاله له أبو يوسف: أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع: اللهم اغفر لي؟ فقال: يقول ربنا لك الحمد ويسجد ولم يصرح بالنهي عن الدعاء. ويحتمل أن يراد بالتنكير الوحدة كأنه قيل: أيظن أبو جهل أنه لو لم يسجد محمد لي وهو عبد واحد لا أجد ساجداً غيره ولي من الملائكة المقربين ما لا يحصيه إلا الله. وفيه تفخيم شأن النبي صلى الله عليه وسلم، كان من شهرته بالعبودية لا يحتاج إلى سبق الذكر كقوله { أسرى بعبده } [الإسراء: 1] { أنزل على عبده } [الكهف: 1] وعن الحسن أن الناهي أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة. وأما الخطاب في قوله { أرأيت إن كان على الهدى } فالأكثرون على أنه للنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً ليكون على نسق واحد. وقال في الكشاف: معناه أخبرني أن ذلك الناهي إن كان على طريق سديد فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى. أو كان آمراً بالتقى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد. أو كان على سيرة التكذيب والتولي عن الدين الصحيح كما نقول نحن { ألم يعلم بأن الله يرى } ويطلع على أحواله من هداه أو ضلاله فيجازيه على ذلك وهو وعيد. فقوله { الذي ينهى } مفعول أول لـ { أرأيت } الأول و{ أرأيت } الثاني مكرر للتأكيد ولطول الكلام، وقوله { إن كان على الهدى } مع ما عطف عليه مفعول ثانٍ له، وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب الشرط الثاني وهو قوله { ألم يعلم } ويجوز أن يكون { أرأيت } الثالث أيضاً مكرراً والجواب بالحقيقة هو ما تدل عليه هذه الجملة الاستفهامية كأنه قيل: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أو كذب وتولى فإن الله مجازيه. وقيل: إن جواب الشرط الأول شيء آخر يدل عليه سياق الكلام والمراد: أرأيت إن صار هذا الكافر على حالة الهدى أو أمر بالتقوى بدل النهي عن عبادة الله، أما كان يليق به ذلك إذ هو رجل عاقل ذو ثروة. ففيه تعجيب من حاله أنه كيف فوت على نفسه مراتب الكمال والإكمال واختار بدلها طريقي الضلال والإضلال. وقيل: الخطاب في { أرأيت } الثاني للكافر كأن الظالم والمظلوم عبدان قاما بين يدي مولاهما أو هما اللذان حضرا عند الحاكم أحدهما المدعي والآخر المبدعى عليه، فيخاطب هذا مرة وهذا مرة، فلما قال للنبي صلى الله عليه وسلم { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } التفت إلى الكافر وقال: أرأيت يا كافر إن كان صلاته هدى ودعاؤه إلى الدين أمراً بالتقوى أتنهاه مع ذلك؟ ثم إن كان الخطاب في { أرأيت } الثالث للنبي صلى الله عليه وسلم فالمعنى: أرأيت يا محمد إن كذب هذا الكافر بتلك الدلائل الواضحة وتولى عن خدمة خالقه ألم يعلم بعقله أن الله يرى منه هذه الأعمال القبيحة حتى يصير زاجراً عنها؟ وإن كان الخطاب للكافر فالمراد إن كان محمد كاذباً أو متوالياً ألا يعلم أن خالقه يراه حتى ينتهي فلا يحتاج إلى نهيك؟ قالت العلماء: هذه الآية وإن نزلت في حق أبي جهل إلا أن كل من ينهى عن طاعة الله فهو شريك في وعيد أبي جهل ولا يرد عليه المنع عن الصلاة في الدار المغصوبة وفي الأوقات المكروهة ومنع المولى عبده عن قيام الليل وصلاة التطوع وزوجته عن الاعتكاف، لأن ذلك لاستيفاء مصالح أخرى بإذن الله وحده، ثم ردع أبا جهل عن نهيه أو عن عدم علمه بإحاطة الله بجميع الكائنات أو عن عزمه على أن يقتل محمداً أو يطأ رقبته، فإن تلميذ محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي يقتله ويطأ صدره، والسفع القبض على الشيء وجذبه بشدة ومنه سفع النار للفحها كأنها تأخذ من الجسد بياضه وطراوته. وقد كتب { لنسفعا } في المصحف بالألف على حكم الوقف لأن النون الخفيفة المؤكدة يوقف عليه بالألف، واللام في قوله { بالناصية } للعهد والمراد لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار ثم إن هذا السفع إما أن يكون إلى نار الآخرة وهو ظاهر، وإما أن يكون في الدنيا كما روي أنه عاد إلى النهي فمكن الله المسلمين يوم بدر حتى جروه بالناصية. يحكى أنه لما نزلت سورة الرحمن قال النبي صلى الله عليه وسلم: من يقرأوها على رؤساء قريش؟ فتثاقل القوم مخافة أذيتهم فقام ابن مسعود فقال: أنا. فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يعلم من صعفه ثم قال: من يقرأوها عليهم؟ فلم يقم إلا ابن مسعود فأجلسه ثم قال في الثالثة كذلك فلم يقم إلا هو فأذن له، فحين دخل عليهم وكانوا مجتمعين حول الكعبة قرأ السورة فقام أبو جهل فلطمه فانشق أذنه فأدماه فانصرف وعينه تدمع، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم رق قلبه وأطرق رأسه مغموماً فإذا جبرائيل جاء ضاحكاً مستبشراً فقال: يا جبرائيل تضحك وابن مسعود يبكي، فقال: ستعلم فلما كان يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد فقال صلى الله عليه وسلم: خذ رمحك والتمس في الجرحى من كان به رمق فاقتله فإنك تنال ثواب المجاهدين. فأخذ يطالع القتلى فإذا أبو جهل مصروع فخاف أن يكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه. ولعل هذا معنى قوله { سنسمه على الخرطوم } [القلم: 15] ثم لما عرف عجزه لم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه فارتقى إليه بحيلة، فلما رآه أبو جهل قال: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعباً. فقال ابن مسعود: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. ثم قال أبو جهل: بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إليّ منه في حال حياتي ولا أحد أبغض إليّ منه في حال مماتي فروي أنه صلى الله عليه وسلم لما سمع ذلك قال: فرعوني أشد من فرعون موسى عليه السلام فإنه قال " آمنت " وهوقد زاد عتواً. ثم قال لابن مسعود: اقطع رأسي بسيفي هذا لأنه أحد وأقطع. فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله. قال أهل العلم: ولعل الحكيم سبحانه إنما خلقه ضعيفاً لأجل أن لا يقوى على الحمل لوجوه منها: أنه كلب والكلب يجر. والثاني ليشق أذنه فتقتص الأذن بالأذن. والثالث تحقق الوعد المذكور في قوله { لنسفعا } فإن ابن مسعود لما لم يطقه شق أذنه وجعل الخيط فيه وجعل يجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبرائيل عليه السلام بين يديه يضحك ويقول: يا محمد أذن بأذن لكن الرأس ههنا مع الأذن. والناصية شعر الجبهة، وقد يسمى مكان الشعر ناصية، وقد كنى ههنا عن الوجه والرأس بالناصية قالوا: السبب فيه أن أبا جهل كان مهتماً بترجيل الناصية وتطييبها فلقاه الله نقيض المقصود حين أعرض عن حكم المعبود. ثم وصف الناصية بأنها { ناصية كاذبة خاطئة } كذب صاحبها وخطأه حين سمى النبي صلى الله عليه وسلم الصادق ساحراً كذاباً، أو حين زعم أنه أكثر أهل الوادي نادياً، والخاطىء أفظع من المخطىء ولهذا قال { لا يأكله إلا الخاطئون } [الحاقة: 37] فالخاطىء معاقب مأخوذ والمخطئ لا يكون مأخوذاً ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. وقوله { ناصية } بدل الكل من الأول، ووجه حسنها كونها موصوفة كما علم من قواعد النحو. يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أغلظ في القول لأبي جهل وتلا عليه هذه الآيات قال: يا محمد بمن تهددني وإني أكثر هذا الوادي نادياً أي أهل مجلس، لأملأن عليك هذا الوادي خيلاً جرداً ورجالاً مرداً فزاد الله في تهديده قائلاً { فليدع ناديه سندع الزبانية } والزباني كل متمرد من جن وإنس ومثله " زبنية " بتخفيف الياء كعفريت وعفرية وأصله من الزبن الدفع، ولعل كسر الزاي لتغيير النسب، عن النبي صلى الله عليه وسلم: لو دعا نادية لأخذته الزبانية عياناً. قال مقاتل: هم خزنة جهنم أرجلهم في الأرض ورؤوسهم في السماء. قال قتادة: الزبانية الشرط بلغة العرب أي الحرس، وقيل: هي جمع لا واحد له. ثم ردع أبا جهل عن قبائح أحواله وأفعاله بقوله { كلا } وشجع النبي صلى الله عليه وسلم بقوله { لا تطعه } ثم قال { واسجد واقترب } أي دم على سجودك وتقرب به إلى ربك ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " "أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد" وقيل: صل وتوفر على عبادة الله فعلاً وإبلاغاً. وقيل: اسجد يا محمد واقترب يا أبا جهل وضع قدمك عليه فإن الرجل ساجد مشغول بنفسه وهذا تهكم به وتعريض بأن الله سبحانه وتعالى عاصم نبيه وحافظه والله أعلم.