التفاسير

< >
عرض

وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ قَالَ يٰبُشْرَىٰ هَـٰذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
١٩
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّاهِدِينَ
٢٠
وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٢١
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
٢٢
-يوسف

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ }: قيل: إِن السيارة جاءَتْ في اليومِ الثاني من طرحه، و«السيارةُ»: بتاءُ مبالغةٍ للذين يردِّدون السيْرَ في الطُرق.

قال * ص *: و«السَّيَّارَة»: جمع سَيَّار، وهو الكثيرُ السَّيْر في الأرض. انتهى. و«الوَارد»: هو الذي يأتي الماءَ يستَقي منه لجماعته، وهو يَقَعُ على الواحدِ وعلى الجَمَاعَةِ. وروي أنَّ مُدْلِيَ الدَّلْو كان يسمَّى مَالِكَ بْنَ دعر، ويروَى أَنَّ هذا الجُبَّ كان بالأُرْدُنِّ على ثلاثةِ فراسِخَ من منزل يَعْقُوبَ، ويقال: أدلَى دلْوَهُ؛ إِذا ألقاه ليستقِيَ الماءَ، وفي الكلام حذفٌ، تقديره: فتعلَّق يوسُفُ بالحَبْل، فلما بَصُرَ به المُدْلِي، قال: { يَٰبُشْرَاي }، وروي أنَّ يوسُفَ كان يومئِذٍ ابنَ سَبْعَ سِنينَ؛ ويرجِّح هذا لفظةُ { غُلاَمٌ }؛ فإِنها لِمَا بَيْنَ الحولَيْن إِلى البلوغِ، فإِن قيلتْ فيما فَوْقَ ذلك، فعلى ٱستصحابِ حالٍ، وتجوُّزٍ، وقرأَ نافعٌ وغيره: «يا بُشْرَايَ» بإِضافةِ البُشْرَى إِلى المتكلِّم، وبفتح الياء على ندائها؛ كأنه يقولُ: ٱحْضُرِي، فهذا وَقْتُكِ، وقرأ حمزة والكسائي: «يَا بُشْرى»، ويميلاَنِ ولا يضيفَانِ، وقرأ عاصمٌ كذلك إِلاَّ أَنه يفتح الراءَ ولا يُمِيلُ، واختلف في تأويل هذه القراءة، فقال السدي: كان في أصحاب هذا الوارد رَجُلٌ ٱسمه «بُشْرَى»؛ فناداه، وأعلمه بالغلامِ، وقيل: هو على نداءِ البُشْرَى؛ كما قدَّمنا.

وقوله سبحانه: { وَأَسَرُّوهُ بِضَـٰعَةً } قال مجاهد: وذلك أنَّ الوُرَّاد خَشُوا من تُجَّار الرفْقة، إِنْ قالوا وجدْنَاه؛ أنْ يشاركوهم في الغُلاَمِ الموجُودِ، يعني: أو يمنعوهم من تملُّكه، إِن كانوا أخياراً، فأسروا بينهم أنْ يقولُوا: أَبْضَعَهُ مَعَنَا بعْضُ أهْلِ المِصْرِ، و«بِضَاعة»: حالٌ، والبضاعة: القطعةُ من المالِ يُتْجَرُ فيها بِغَيْرِ نصيبٍ من الرِّبْحِ؛ مأخوذة من قولهم: «بَضْعَة»؛ أي: قطعة، وقيل: الضمير في «أَسَرُّوه» يعود على إِخوة يوسف.

وقوله سبحانه: { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ }: «شروه»؛ هنا: بمعنى بَاعُوه، قال الداوديُّ: وعن أبي عُبَيْدة: { وَشَرَوْهُ } أي: باعوه، فإِذا ٱبْتَعْتَ أَنْتَ، قُلْتَ: ٱشْتَريْتُ انتهى، وقال ابن العربيِّ في «أحكامه»: قوله تعالى: { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ }: يقال: ٱشتريْتُ بمعنى بِعْتُ، وَشَرَيْتُ بمعنى ٱشتريْتُ؛ لغة انتهى، وعلى هذا، فلا مانِعَ مِنْ حمل اللفظ على ظاهره، ويكون «شَرَوْهُ» بمعنى: «ٱشتروه».

قال * ع *: روي أن إِخوة يُوسُفَ لمَّا علموا أن الوُرَّاد قد أخذوه جاؤوهم، فقالوا: هذا عَبْدٌ قد أَبَقَ منا، ونحنُ نبيعُهُ منكم، فقارَّهم يوسُفُ على هذه المقالة؛ خوفاً منهم، ولينفذ اللَّه أمره، والــ { بَخْسٍ }: مصدر وُصِفَ به الثمن، وهو بمعنى النَّقْصِ.

وقوله: { دَرَٰهِمَ مَعْدُودَةٍ }: عبارةٌ عن قلة الثمن؛ لأنها دراهم، لم تبلغْ أنْ توزَنَ لقلَّتها، وذلك أنهم كانوا لا يزنُونَ ما كان دون الأوقية، وهي أربعون درهماً.

وقوله سبحانه: { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّٰهِدِينَ }: وصفٌ يترتب في إِخوة يوسف، وفي الوُرَّاد، ولكنَّه في إِخوة يوسف أرتَبُ؛ إِذ حقيقة الزهْدِ في الشيء إِخراجُ حُبِّه من القَلْبِ ورَفْضُهُ من اليدِ، وهذه كانَتْ حالَ إِخوة يوسُفٌ في يوسُفَ، وأمَّا الورَّاد، فإِنَّ تمسُّكَهم به وتَجْرَهُمْ يمانِعُ زُهْدَهم إِلا على تجوُّزٍ، قال ابْن العربيِّ في «أحكامه»: { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّٰهِدِينَ }: أي: إِخوته والواردة، أَما إِخوته؛ فلأنَّ مقصودهم زوالُ عَيْنِه، وأما الواردة، فلأنهم خافوا ٱشتراك أصحابهم معهم. انتهى.

وقوله سبحانه: { وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا }: روي أنَّ مبتاع يوسُفَ وَرَدَ به مصْرَ البلدِ المعروفِ؛ ولذلك لا ينصرفُ، فَعَرَضَهُ في السُّوقِ، وكان أجْمَلَ الناس، فوقَعَتْ فيه مزايدةٌ حتى بلغ ثمناً عظيماً، فقيل: وزنه من ذهبٍ، ومن فضةٍ، ومن حريرٍ، فٱشتراه العزيزُ، وهو كان حَاجِبَ المَلِكِ وخازِنَة، وٱسْمُ المَلِك الرَّيَّانُ بْنُ الوَلِيدِ، وقيل: مُصْعَبُ بْنُ الرَّيَّانِ، وهو أحد الفراعِنَةِ، واسمُ العزيزِ المذْكُورِ: «قطيفين»؛ قاله ابن عباس، وقيل: «أظفير»، وقيل: «قنطور»، وٱسم امرأته: «رَاعيل»، قاله ابنُ إِسحاق، وقيل: «زُلَيْخَا»، قال البخاريُّ: و{ مَثْوَاهُ }: مَقَامُهُ.

وقوله: { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } أي: نتبنَّاه، وكان فيما يُقَالُ: لا ولد له، ثم قال تعالى: { وَكَذَٰلِكَ }، أي: وكما وصفْنا { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ } فعلنا ذلك، و{ ٱلأَحَادِيثِ }: الرؤيا في النوْمِ؛ قاله مجاهد، وقيل: أحاديث الأنبياء والأمم، والضمير في «أمره» يحتمل أنْ يعودَ على يوسف؛ قاله الطبري، ويحتملُ أن يعود على اللَّهِ عزَّ وجلَّ؛ قاله ابن جُبَيْر، فيكون إِخباراً منبِّهاً على قدرة اللَّه عزَّ وجلَّ ليس في شأن يوسُفَ خاصَّة، بل عامًّا في كل أمر، و«الأَشُدَّ»: ٱستكمال القوة وتناهِي بِنْيَةِ الإِنسان، وهما أَشُدَّان: أولهما، البلوغ، والثاني: الذي يستعمله العرب.

وقوله سبحانه: و{ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا }: يحتمل أن يريد بالحُكْم: الحكمة والنبوَّة، وهذا على الأشُدِّ الأعلَى، ويحتملُ أن يريد بالحُكْمِ: السلطانَ في الدنيا وحكماً بين الناس، وتدخُلُ النبوَّة وتأويلُ الأحاديث وغير ذلك في قوله: { وَعِلْماً }، وقال ابن العربيِّ: { آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا }: الحُكْم: هو العَمَلُ بالعلْمِ. انتهى.

وقوله سبحانه: { وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ }: عبارةٌ فيها وعد للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، أي: فلا يهولَنَّكَ فعل الكَفَرة وعتوّهم عليك، فاللَّه تعالى يصنع للمحْسِنِين أجْمَلَ صنع.