التفاسير

< >
عرض

وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٦٧
وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
٦٨
ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٦٩
وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
٧٠
-النحل

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { وَمِن ثَمَرَٰتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَـٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا... } الآية: «السَّكَر»: ما يُسْكِرُ؛ هذا هو المشهور في اللغة، قال ابن عباس: نزلَتْ هذه الآية قبل تحريمِ الخَمْرِ، وأراد بـــ« السَّكَر»: الخمرَ، وبـــ «الرِّزْق الحسن» جميعَ ما يُشْرَبُ ويؤكل حلالاً من هَاتَيْنِ الشجرتَيْن، فالحَسَنُ؛ هنا: الحلال، وقال بهذا القولِ ابنُ جُبَيْر وجماعة وصحَّح ابنُ العربيِّ هذا القولِ، ولفظه: والصحيحُ أَنَّ ذلك كان قبل تحريمِ الخَمْرِ، فإِن هذه الآية مكِّيَّة بٱتفاقِ العلماء، وتحريمُ الخَمْر مدنيٌّ انتهى من «أحكام القرآن»، وقال مجاهد وغيره: السكر المائعُ من هاتَيْنِ الشجرتَيْنِ، كالخَلِّ، والرّبِّ، والنَّبِيذِ، والرزقُ الحَسَنُ: العنبُ والتمرُ.

قال الطبريُّ: والسّكَر أيضاً في كلام العرب ما يُطْعَم، ورجَّح الطبريُّ هذا القول، ولا مدخَلَ للخَمْر فيه، ولا نَسْخَ في الآية.

وقوله تعالى: { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ... } الآية: الوحْيُ؛ في كلام العرب: إلقاء المعنى من المُوحى إلى الموحى إِليه في خفاءٍ، فمنه الوحْيُ إِلى الأنبياء برسالةِ المَلَكِ، ومنه وَحْيُ الرؤيا، ومنه وَحْيُ الإِلهام، وهو الذي في آيتنا؛ بٱتفاقٍ من المتأوِّلينِ، والوحْيُ أيضاً بمعنى الأمر؛ كما قال تعالى: { { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا } [الزلزلة:5]، وقد جعل اللَّه بيوتَ النحل في هذه الثلاثة الأنواعِ: إمَّا في الجبالِ وكُوَاها، وإِما في متجوَّفِ الأشجار، وإِما فيما يَعْرِشُ ابنُ آدَمَ من الأَجْبَاحِ والحِيطان، ونحوها، وعَرَشَ: معناه: هيَّأ، والـ { سُبُلَ } الطرقُ، وهي مسالكها في الطيران وغيره، و{ ذُلُلاً }: يحتمل أن يكون حالاً من «النحل»، أي: مطيعةً منقادةً، قاله قتادة. قال ابن زَيْد: فهم يخرجون بالنحْل ينتجعون، وهي تتبعهم وقرأ: { { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَـٰماً... } [يس:71] الآية، ويحتملُ أنْ يكون حالاً من «السُّبُل»، أي: مسَّهلةً مستقيمةً؛ قاله مجاهد، لا يتوعَّر عليها سبيلٌ تسلُكُه.

ثم ذكر تعالى؛ على جهة تعديد النعمة، والتنبيه على العِبْرة - أمْرَ العَسَل في قوله: { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ }، وجمهور الناس على أنَّ العسل يخرُجْ من أفواهِ النَّحْلِ، واختلافُ الألوان في العسل بحسب اختلاف النَّحْلِ والمَرَاعِي، أيُّ والفصول.

* ت *: قال الهرويُّ: قوله تعالى: { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ }، وذلك أنه يستحيلُ في بطونها، ثم تمجُّه من أفواهها انتهى.

وقوله: { فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ } الضمير للعَسَل؛ قاله الجمهور: قال ابن العربيِّ في «أحكامه»؛ وقد روى الأئمة، واللفظُ للبخاريّ، عن عائشة، قالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الحْلَوَاءَ والعَسَل، وروى أبو سعيد الخُدْرِيُّ: "أنَّ رجلاً أتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ أخِي يَشْتَكى بَطْنَهُ فَقَالَ: ٱسقِهِ عَسَلاً، ثم أتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: ٱسْقِهِ عَسَلاً، ثُمَّ أتاه فَقَالَ: فَعَلْتُ فَمَا زَادَهُ ذَلِكَ إِلاَّ ٱسْتِطْلاَقاً، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: صَدَق اللَّهُ وكَذَبَ بَطْنُ أخِيكَ، ٱسقِهِ عَسَلاً فسَقَاهُ، فَبَرأ" وروي أنَّ عوف بنَ مالك الأشْجَعِيَّ مَرِضَ، فقيل له: ألا نُعَالِجُكَ؟ فَقَالَ: ٱئْتُوني بمَاءِ سَمَاءٍ، فإِنَّ اللَّهَ تعالى يقُولُ: { { وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَاءً مُّبَـٰرَكاً } [ق:9] وٱئتوني بعَسَلٍ؛ فإن اللَّه تعالى يقول: { فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ } وٱئتوني بزيت؛ فإن اللَّه تعالى يقولُ: { { مِن شَجَرَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ } [النور:35] فجاءوه بذلك كلِّه فخَلَطَهُ جميعاً، ثم شَرِبَهُ، فَبّرأَ انتهى.

وقوله سبحانه: { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ }، وأرذلُ العَمَر الذي تَفْسُدُ فيه الحواسُّ، ويختلُّ العَقْل، وخص ذلك بالرذيَلةِ، وإن كانَتْ حالة الطُّفُولة كذَلِكَ مِنْ حيثُ كانَتْ هذه لا رَجَاءَ معها، وقال بعضُ الناس: أول أرذَلِ العُمُرِ خَمْسٌ وسَبْعُونَ سنةً، روي ذلك عن علي رضي الله عنه.

قال * ع *: وهذا في الأغْلَبِ، وهذا لا ينحصرُ إِلى مدَّة معيَّنة، وإِنما هو بحَسَبِ إِنسانٍ إِنسانٍ، ورُبَّ مَنْ يكون ابْنَ خمسينَ سنَةً، وهو في أرذلِ عمره، وربَّ ابن تسعينَ ليس في أرذَلِ عمره، واللامُ في { لِكَيْ } يشبه أنْ تكون لامَ الصيرورةِ، والمعنى: ليصير أمره بعْدَ العِلْم بالأشياء إلى ألاَّ يعلم شيئاً، وهذه عبارة عن قلَّة علمه، لا أنه لا يعلم شيئاً البتَّة.