التفاسير

< >
عرض

وَآتَيْنَآ مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً
٢
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً
٣
وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً
٤
-الإسراء

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

{ وَآتَيْنَآ مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ }، أي: التوراة.

وقوله: { أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً... } الآية: التقديرُ: فعلنا ذلك؛ لَئِلاَّ تتخذوا يا ذرية فـــ { ذُرِّيَّةَ }: منصوب على النداء، وهذه مخاطبة للعالَم، ويتجه نصبُ (ذرِّيَّة) على أنه مفعول بـ «تتخذوا» ويكون المعنى أَلاَّ يتخذوا بشراً إِلاها من دون اللَّه، وقرأ أبو عمر وحده: «أَلاَّ يَتَّخِذُوا» بالياء، على لفظ الغائب، «والوكيل»؛ هنا من التوكيل، أي: متوكَّلاً عليه في الأمور، فهو ندٌّ للَّه بهذا الوجه، وقال مجاهد: { وَكِيلاً }: «شريكاً»، ووصف نوح بالشُّكْر؛ لأنه كان يحمد اللَّه في كل حالٍ، وعلى كل نعمةٍ من المطعم والمشرب والملبس والبراز وغير ذلك صلى الله عليه وسلم قاله سلمانُ الفارسيُّ وغيره، وقال ابن المبارك في «رقائقه»: أخبرنا ابنُ أبي ذئبٍ عن سعيدٍ المُقْبُرِيِّ عن أبيه عن عبد الله بن سَلاَمٍ: أن موسى عليه السلام قال: يا ربِّ، ما الشكْرُ الذي ينبغي لَكَ؟ قَالَ: يَا مُوسَى لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِي، انتهى، وقد رُوِّيناه مسنداً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أعني قوله: "لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِ اللَّه" .

وقوله سبحانَهُ: { وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَني إِسْرَٰءِيلَ... } الآية: قالتْ فرقة: { قَضَيْنَا } معناه: في أم الكتاب.

قال * ع *: وإنما يُلْبِسُ في هذا المكان تعديةُ { قَضَيْنَا } بـ «إلى»، وتلخيصُ المعنى عندي: أنَّ هذا الأمر هو مما قضاه اللَّه عزَّ وجلَّ في أمِّ الكتاب على بني إسرائيل، وألزمهم إياه، ثم أخبرهم به في التَّوْرَاة على لسان موسى، فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمريْنِ جميعاً في إيجازٍ، جعل { قَضَيْنَا } دالَّة على النفوذ في أم الكتاب، وقَرَن بها «إِلى» دالَّةً على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل، والمعنى المقصودُ مفهومٌ خلالَ هذه الألفاظ، ولهذا فسر ابنُ عباس مرةً بأنْ قال: { قَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ }، معناه: أعلمناهم، وقال مرَّةً: «قضينا عليهم»، و{ ٱلْكِتَـٰبِ } هنا؛ التوراةُ لأن القَسَم في قوله: { لَتُفْسِدُنَّ } غير متوجِّه مع أنْ نجعل { ٱلْكِتَـٰبِ } هو اللوح المحفوظ.

وقال * ص *: و{ قَضَيْنَا }: مضمَّنٌ معنى «أوْحَيْنَا»؛ ولذلك تعدَّى بـ «إلى» وأصله أنْ يتعدَّى بنفسه إِلى مفعولٍ واحدٍ؛ كقوله سبحانه: { { فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ } [القصص:29] انتهى، وهو حسنٌ موافق لكلام * ع *، وقوله «ولتعلُنَّ» أي: لتتجبَّرُنَّ، وتطلبون في الأرض العُلوَّ، ومقتضى الآيات أن اللَّه سبحانه أعْلَمَ بني إسرائيل في التوراة، أنه سيقع منهم عصيانٌ وكفرٌ لِنِعمِ اللَّه، وأنه سيرسل عليهم أمةً تغلبهم وتذلُّهم، ثم يرحمهم بعد ذلك، ويجعل لهم الكَرَّة ويردُّهم إلى حالهم من الظهور، ثم تقع منهم أيضاً تلك المعاصِي والقبائِحَ، فيبعث اللَّه تعالى عليهم أمةً أخرى تخرِّب ديارهم، وتقتلُهم، وتجليهم جلاءً، مبرِّحاً، وأعطى الوجودَ بعد ذلك هذا الأمْرَ كلَّه، قيل: كان بين المرتَيْنِ مِائَتَا سنةٍ، وعَشْرُ سنينَ مُلْكاً مؤيَّداً بأنبياء، وقيل: سبعون سنة.