التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً
٧٩
وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً
٨٠
وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً
٨١
-الإسراء

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

{ وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ } «مِنْ» للتبعيض، التقدير: ووقتاً مِنَ الليلِ، أيَّ: قم وقتاً، والضمير في «به» عائدٌ على هذا المقدَّر، ويحتملُ أن يعود على القرآن، و«تهجَّد» معناه: ٱطَّرِحِ الهجودَ عَنْك، «والهُجُود»: النوم، المعنى: ووقتاً من الليل ٱسْهَرْ به في صلاةٍ وقراءة، وقال علقمة وغيره: التهجُّد بعد نومة، وقال الحَجَّاج بن عمرو: إِنما التهجُّد بعد رقدة، وقال الحسن: التهجُّد ما كان بعد العشاء الآخرة.

وقوله: { نَافِلَةً لَّكَ } قال ابن عباس: معناه: زيادةً لك في الفَرْضٍ، قال: وكان قيامُ الليل فرضاً على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقال مجاهدٌ: إِنما هي نافلة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مغفورٌ له،والناس يحطُّون بمثل ذلك خطاياهم، يعني: ويجبرون بها فرائضهم؛ حَسْبما ورد في الحديثِ، قال صاحب «المدخل»، وهو أبو عبد الله بن الحَاجِّ؛ وقد قالوا: إِنَّ مَنْ كان يتفلَّت منه القرآن، فليقُمْ به في الليْلَ، فإن ذلك يثبته له ببركة امتثال السُّنَّة سِيَمَا الثُّلُثُ الأخير من الليلِ؛ لما ورد في ذلك من البركَات والخَيْرَات، وفي قيامِ اللَّيْلِ من الفوائد جملةٌ، فلا ينبغي لطالب العلْم أنْ يفوته منْها شَيْءٌ.

فمنها: أنه يحطُّ الذنوب؛ كما يحطُّ الريحُ العاصفُ الوَرَقَ اليابس من الشجرة.

الثاني: أنه ينوِّر القلب.

الثالث: أنه يحسِّن الوجه.

الرابع: أنه يذهب الكسل، وينشِّط البدن.

الخامس: أن موضعه تراه الملائكَة من السماء؛ كما يتراءى الكوكب الدُّرِّيُّ لنا في السماءِ، وقد روى الترمذيُّ عن أبي أمامة؛ أن رسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عَلْيُكُمْ بِقَيِامِ اللَّيْلِ، فإِنَّهُ مِنْ دأْبِ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلى اللَّهِ تعالى، ومَنْهَاةٌ عَنِ الآثَامِ، وتَكْفِيرٌ للسَّيِّئَاتِ، وَمَطْرَدَةٌ للِدَّاءِ عَنِ الجَسَدِ" وروى أبو داود في «سننه» عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاصِ، قال: قَالَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آياتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ، ومَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتِينَ، ومَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةِ، كُتِبَ مِنَ المُقَنْطِرِين" انتهى من «المدخل».

وقوله سبحانه: { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا }: عِدَةٌ من اللَّه عزَّ وجلَّ لنبيِّه، وهو أمر الشَّفاعة الذي يتدافَعُه الأنبياء حتى ينتهي إِليه صلى الله عليه وسلم، والحديث بطوله في البخاريِّ ومسلمٍ.

قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه»: واختلف في وَجْهِ كوْنِ قيامِ الليْلِ سَبَباً للمقامِ المْحُمودِ؛ على قَوْلين للعلماء:

أحدهما: أن البارِي تعالى يجعلُ ما يشاء مِنْ فضله سبباً لفضله من غير معرفةٍ لنا بَوْجهِ الحكمة.

الثاني: أنَّ قيام الليل فيه الخَلْوَة بالباري تعالى، والمناجاة معه دون الناسِ، فيعطى الخَلْوة به ومناجاتَه في القيامةِ، فيكون مقاماً محموداً، ويتفاضل فيه الخَلْق؛ بحسب درجاتهم، وأجلُّهم فيه درجة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، فيعطى من المحامدِ ما لم يعطَ أحدٌ، ويَشْفَعُ فَيُشَفَّع. انتهى.

وقوله سبحانه: { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ... } الآية: ظاهر الآية: والأحْسَنُ أن يكون دعا عليه السلام في أن يحسِّن اللَّه حالته في كلِّ ما يتناول من الأمور ويحاولُ من الأسفار والأعمال، وينتظر من تصرُّف المقادير في المَوْت والحياة، فهي على أتمِّ عمومٍ، معناه: ربِّ، أصْلِحْ لي وِرْدِي في كلِّ الأمور، وَصَدَري.

وذهب المفسِّرون إِلى تخصيص اللفْظِ، فقال ابن عبَّاس وغيره: أدْخِلْنِي المدينة، وأخرجني من مكَّة، وقال ابن عباس أيضاً: الإِدخال بالمَوْت في القبرِ، والإِخراج: البعث، وقيل غير هذا، وما قدَّمت من العموم التَّامِّ الذي يتناول هذا كلَّه أصوبُ، «والصِّدق»؛ هنا صفة تقتضي رفْعَ المذامِّ وٱستيعابَ المَدْح، { وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَـٰناً نَّصِيرًا } قال مجاهدٌ: يعني حجَّةً تنصرني بها على الكفَّار.

وقوله سبحانه: { وَقُلْ جَاءَ ٱلْحَقُّ... } الآية: قال قتادة: { ٱلْحَقُّ } القُرآن، و{ ٱلْبَـٰطِلُ } الشيطان.

وقالت فرقةٌ: { ٱلْحَقُّ } الإِيمان، و{ ٱلْبَـٰطِلُ }: الكُفْران، وقيل غير هذا، والصواب تعميمُ اللفظ بالغايةِ المُمْكنة؛ فيكون التفسيرُ: جَاءَ الشرع بجميع ما ٱنْطَوَى فيه، وزَهَق الكُفْر بجميع ما ٱنْطَوى فيه، وهذه الآية نزَلْت بمكَّة، وكان يستشهد بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فتحِ مكَّة وقْتَ طعنه الأصنام وسقوطَها لطَعْنه إِياها بالمِخْصَرَة.