التفاسير

< >
عرض

قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً
٧٥
قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَٰحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً
٧٦
فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ ٱسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً
٧٧
قَالَ هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً
٧٨
أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً
٧٩
وَأَمَّا ٱلْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً
٨٠
فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَـاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً
٨١
وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً
٨٢
-الكهف

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } قال: وهذه أشدُّ من الأولى - { قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً * فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ ٱسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ }، قال: مائل، فقال الخَضِرُ بيده هكذا، فأقامه، فقال موسى: قومٌ أتيناهم، فلم يُطْعِمُونا، ولم يضيِّفونا { لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } قال سعيدُ بنُ جُبَيْر: أجراً نأكله - «قال هذا فراق بيني وبينك» إِلى قوله: { ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً }، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرَهِمَا» قال سعيد: فكان ابن عباس يَقْرأُ: «وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ [صَالِحَةِ] غَضْباً»، وكان يقرأ: «وأَمَّا الغُلاَمُ [فَكَانَ كَافِراً] وكَانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ»، وفي رواية للبخاريِّ: يزعمون عن غَيْر سعيدِ بْنِ جُبَيْر؛ أنَّ اسم المَلِكِ: هُدَدُ بْنُ بُدَدٍ، والغلام المقتولُ اسمه يزعمون حَيْسُورُ، ويقال: جَيْسُورَ مَلِكٌ { يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً }، فأردتُّ إِذا هِيَ مَرَّتْ به أنْ يَدَعَها لِعَيْبها، فإِذا جَاوَزُوا أصْلَحُوها، فانتفعوا بها، ومنهم من يقول: سَدُّوها بقَارُورة، ومنهم من يقول بالقَارِ، { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ }، وكان كافراً، { فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَـٰناً وَكُفْراً } أنْ يحملهما حبُّه على أنْ يتابعاه على دينه، { فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَـوٰةً } لقوله: «أقتلْتَ نفساً زاكية»، { وَأَقْرَبَ رُحْماً } هما به أرحم منهما بالأول الذي قتله خَضِر، وزعم غير سعيد أنهما أُبْدلا جاريةً، وأما داوُدُ بن أبي عاصِمٍ، فقال عن غير واحدٍ: إنها جاريةٌ. انتهى لفظُ البخاريِّ.

* ت *: وقد تحرَّينا في هذا المختصر بحَمْد اللَّه التحقيقَ فيما علَّقناه جُهْد الاستطاعة، واللَّه المستعان، وهو المسؤول أن ينفع به بجُوده وكَرَمِهِ. قال * ع *: ويشبه أنْ تكون هذه القصَّة أيضاً أصلاً للآجالِ في الأحكام التي هي ثَلاَثَةٌ، وأيام التلوم ثلاثةٌ، فتأمَّله.

وقوله سبحانه: { فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا } وفي الحديث: «أَنَّهُمَا كَانَا يَمْشِيَانِ عَلَى مَجَالِسِ أُولَئِكَ القَومِ يَسْتَطْعمَانِهِمْ».

قال * ع *: وهذه عبرة مصرِّحة بهوان الدنيا على اللَّه عزَّ وجلَّ. * ص *: وقوله: { فِرَاقُ بَيْنِي } الجمهور بإِضافة «فِرَاق»، أبو البقاء، أي تفريقُ وَصْلِنا، وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ «فِراقٌ» بالتنوين، أبو البقاء و«بَيْنَ»: منصوبٌ على الظرفِ انتهى.

قال * ع *: و{ وَرَاءَهُم } هو عندي على بابه، وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعًى بها الزمانُ، وذلك أنَّ الحادث المقدَّم الوُجُودِ هو الأمامُ، والذي يأتي بَعْدُ هو الوَرَاء، وتأمَّل هذه الألفاظ في مواضِعِها حيْثُ وردَتْ تجدها تَطَّرد، ومِن قرأ: «أَمامَهُمْ»، أراد في المكان.

قال * ع *: وفي الحديث، «أنَّ هَذَا الغُلاَمَ طُبِعَ يَوْمَ طُبعَ كافِراً»، والضمير في «خشينا» للخضِرِ، قال الداووديُّ: قوله: { فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا }، أي: علمنا انتهى. «والزَكَاةُ» شرف الخُلُق والوقارُ والسكينةُ المنطويةُ على خَيْرٍ ونيَّة، «والرُّحْم» الرحمة، وروي عن ابن جُرَيْج، أنهما بُدِّلا غلاماً مسْلِماً، وروي عنه أنهما بُدِّلا جاريةً، وحكى النَّقَّاش أنها وَلَدَتْ هي وَذُرِّيَّتُها سبعين نبيًّا، وذكره المهدويُّ عن ابن عباس، وهذا بعيدٌ، ولا تُعْرَف كثرة الأنبياءِ إِلا في بني إسرائيل، وهذه المرأة لم تكُنْ فيهم، واختلف النَّاسُ في هذا الكنز المذكور هنا، فقال ابن عباس: كان عِلْماً في صُحُف مدفونةٍ، وقال عمر مولى غَفْرَة: كان لَوْحاً من ذَهَبٍ قد كُتِبَ فيه: «عجباً للموقِنِ بالرِّزْقِ كيف يَتْعَبُ، وعجباً للموقِنِ بالحسابِ كيف يَغْفَلُ، وعجباً للموقِنِ بالمَوْتِ كيف يَفُرَحُ»، وروي نحو هذا مما هو في معناه، وقال الداووديُّ: { كَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا }، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ذَهَبٌ وفِضَّة» انتهى، فإِن صحَّ هذا الحديثُ، فلا نظر لأحَدٍ معه، فاللَّه أعلم أيَّ ذلك كَانَ.

وقوله سبحانه: { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـٰلِحاً } ظاهر اللفظِ، والسابقُ منه إِلى الذهنِ أنه والدهما دِنْيَةً، وقيل: هو الأب السابعُ، وقيل: العاشر، فَحُفِظَا فيه، وفي الحديثِ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْفَظُ الرَّجُلَ الصَّالِحَ في ذُريتِهِ" ، وقول الخضر: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي }، يقتضي أنه نَبِيٌّ، وقد اختلف فيه، فقيل: هو نبيٌّ، وقيل: عَبْدٌ صالح، وليس بنبيٍّ؛ وكذلك اختلف في موته وحياته، واللَّه أعلم بجميع ذلك، ومما يقضي بموت الخَضِر قوُلُه صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ إِلى رَأْسِ مِائَةٍ مِنْهَا لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ اليَوْمَ على ظَهْرِ الأَرضِ أحد" .

قال القرطبيُّ في «تذكرته»: وذكر عن عمرو بن دِينَارٍ: الخَضِرُ وإِلياسُ عليهما السلام حَيَّانِ، فإِذا رفع القرآن ماتا قال القرطبيُّ: وهذا هو الصحيحُ انتهى، وحكاياتُ مَنْ رأَى الخَضِرَ من الأولياء لا تحصَى كثرةٍ فلا نطيلُ بَسْردها، وانظر «لطائِفَ المِنَن» لابن عطاء اللَّه.

وقوله: { ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ }: أي مآل، وحكى السُّهَيْليُّ أنه لما حان للخَضِر وموسى أن يفترقا، قال له الخَضر: لو صَبَرْتَ، لأَتَيْتَ عَلَى أَلْفِ عَجَبٍ، كلُّها أعجبُ ممَّا رأَيْتَ، فبكى موسى، وقالَ للخَضِر: أوْصِنِي يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فقال: يا مُوسَى، اجْعَلْ همَّك في معادِكَ، ولا تَخُضْ فيما لا يَعْنِيك، ولا تأمَنْ مِنَ الخوفِ في أمْنِكَ، ولا تَيْئَس من الأمن في خوفك، وتدَّبر الأمورَ في علانيتِكَ، ولا تَذَر الإحسانَ في قُدْرتك، فقال له موسى: زِدْنِي يرحمك اللَّه، فقال له الخَضِر: يا مَوسَى، إِياكَ واللَّجَاجَةُ، ولا تَمْش في غير حَاجَةٍ، ولا تَضْحَكْ من غَيْر عَجَبٍ، ولا تعير أحداً، وابكِ على خطيئتك يَا بْنَ عِمران. انتهى.