التفاسير

< >
عرض

وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً
٧١
ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً
٧٢
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَٰتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً
٧٣
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً
٧٤
-مريم

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله عزَّ وجل: { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قَسَمٌ، والواو تَقْتَضِيه، ويفسّره قولهُ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَوْلاَدٍ، لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ إلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ" . وقرأ ابن عباس، وجماعَةٌ: «وإنْ مِنْهُمْ» بالهَاءِ على إرَادة الكُفَّار.

قال * ع *: ولا شغب في هذه القراءة، وقالت فِرْقَةٌ من الجمهور القارئين «منكم». المعنى: قُلْ لهم يا محمَّدُ، فالخِطَاب بــ { مِنْكُمْ } للكفرةِ، وتأويل هؤلاءِ أَيضاً سَهْلُ التناوُلِ.

وقال الأكثرُ: المخاطَبُ العَالَمُ كلّه، ولا بُدّ مِنْ وُرُودِ الجميع، ثم اختلفوا في في كَيْفِيَّةِ ورود المُؤْمِنِينَ، فقال ابنُ عباسٍ، وابنُ مسعودٍ، وخالدُ بن مَعْدَانَ، وابنُ جُرَيْجٍ، وغيرُهم: هو ورودُ دخولٍ، لكنَّها لا تعدو عليهم، ثم يُخْرِجَهم اللّهُ عز وجل منها بعدَ مَعْرِفتهم حَقِيقَةَ ما نَجَوْا منه.

وروى جابرُ بنُ عبدِ اللّهِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنه قال: "الوُرُودُ فِي هَذِهِ الآيَةِ هُوَ الدُّخُولُ" ، وقد أَشْفَقَ كَثِيرٌ من العلماء من تحقُّقِ الورودِ مع الجَهْلِ بالصَّدَرِ جعلنا اللّه تعالى من الناجين بفضله ورحمته -، وقالت فِرْقَة: بَلْ هُو ورودُ إشْرَافٍ، واطِّلاعٍ، وقُرْبٍ، كما تقول: وردتُ الماءَ؛ إذا جِئْتَه، وليس يلزم أَن تدخل فيه، قالوا: وحَسْبُ المُؤْمِن بهذا هَوْلاً؛ ومنه قولُه تعالى: { { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ } [القصص: الآية 23].

وروت فرقة أثراً: أنّ الله تعالى يجعلُ النَّار يوم القيامة جامدةَ الأعلىٰ كأنها إهالةٌ فيأتي الخلقُ كلُّهم؛ برُّهم وفاجرُهم فيقفون عليها, ثم تسوخُ بأهلِها, ويخرجُ المؤمنون الفائزون, لم ينلهم ضرٌّ, قالوا فهذا هو الورودُ.

قال المهدوي: وعن قتادةَ قال: يرد النَّاسُ جهنَّمَ وهي سَوْدَاءُ مظلِمةٌ، فأَما المؤْمنُونَ فأَضَاءَتْ لهم حَسَناتُهم، فَنَجَوْا منها، وأما الكفارُ فأوبقتهم سَيِّئَاتُهم، وٱحْتُبسُوا بذنوبهم. [انتهى].

وروت حَفْصَةُ - رضي اللّه عنها - أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَالحُدَيْبِيَةِ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّه، وأَيْنَ قَوْلُ اللّهِ تَعَالَىٰ: { وَإنْ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُهَا } فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: فَمَهْ، { ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقُوا }" ورجح الزجاجُ هذا القَوْلَ؛ بقوله تعالى: { { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الحُسْنَىٰ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [الأنبياء:101].

* ت *: وحديثُ حفصةَ هذا أَخرجهُ مُسْلِم، وفيه: «أَفلم تَسْمَعِيهِ يقولُ: { ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقُوْا }.

وروى ابنُ المبارك في «رُقائقه» أنه لما نزلت هذه الآية { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } ذهب ابن رواحة إلى بيته فبكى: [فَجَاءَتِ ٱمْرَأَتُهُ، فَبَكَتْ]، وَجَاءَتْ الخَادِمُ فَبَكَتْ، وجَاءَ أَهْلُ البَيْتِ فَجَعَلُوا يَبْكُونَ، فَلَمَّا انْقَضَتْ عَبْرَتُهُ، قَالَ: يَا أَهْلاَهُ، مَا يُبْكِيكُمْ، قَالُوا: لاَ نَدْرِي، وَلَكِنْ رَأَيْنَاكَ بَكَيْتَ فَبَكَيْنَا، فَقَالَ: آيَةٌ نَزَلَتْ عَلَىٰ رَسُولِ اللّه صلى الله عليه وسلم يُنْبِئُنِي فِيهَا رَبِّي أَنِي وَارِدُ النَّارَ، وَلَمْ يُنْبِئْنِي أَنِّي صَادِرٌ عَنْهَا، فَذَلِكَ الَّذِي أبْكَانِي. انتهى.

وَقال ابنُ مَسْعُودٍ: ورودُهُمْ: هو جَوَازُهُمْ على الصِّراطِ، وذلك أَنَّ الحديث الصَّحيحَ تضمن أَنَّ الصراط مَضْرُوبٌ على مَتْنِ جهنم.

والحَتْمُ: الأَمْر المنفدُ المجْزُوم، و { ٱلَّذِينَ ٱتَّقوا }: معناه اتَّقَوْا الكُفْر { ونَذَرُ } دالةٌ على أَنهم كَانُوا فيها.

قال أَبُو عُمَر بنُ عَبْدِ البَرِّ في «التمهيد» بعد أَن ذكر روَاية جابِر، وابنِ مَسْعُودٍ في الوُرُودِ، وروي عن كَعْبٍ أَنه تَلاَ؟ { وإنْ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُهَا } فقال: أَتَدْرُونَ مَا وُرُودُهَا؟ إنه يُجَاءُ بجهنَّم فتُمْسكُ للناس كأَنها متْن إهَالَة: يعني: الوَدَك الذي يجمد على القِدْر من المرقَةِ، حَتَّى إذا استقرت عليها أَقدَام الخَلائِق: بَرّهم وفَجارُهم، نَادَى مُنَادٍ: أَنْ خُذِي أَصْحَابِك، وذَرِي أَصْحَابِي، فيُخْسَفُ بكلِّ وليٍّ لها، فَلَهِيَ أَعلَمُ بهم مِنَ الوَالِدَة بولَدِهَا، وينجو المُؤْمِنُونَ نَدِيَّة ثيابهم.

وروي هذا المعنى عن أَبي نَضْرَةَ، وزاد: وهو معنى قولِه تَعَالَى: { { فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَٰطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ } [يس:66]. انتهى.

وقوله تعالى: { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتُنَا بِيِّنَـٰتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً... } الآية، هذا افتخارٌ من كفار قريش؛ وأَنه إِنما أَنعم اللّه عليهم؛ لأَجْلِ أَنهم على الحقِّ بزعمهم. والنَّدِيّ، والنَّادِي: المجْلِسُ، ثم رد اللّه تعالى حُجَّتَهم وحقَّر أَمْرهم؛ فقال تعالى: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَـٰثاً وَرِءْياً } أيْ: فلم يُغْن ذلك عنهم شَيْئاً، والأَثَاث: المال العين، والعَرْض والحيوان.

وقرأَ نافِعٌ وغيرُه: «ورءيا» بهمزةٍ بعدها ياءٌ؛ من رُؤْية العَيْنِ.

قال البخاري: ورءياً: منظراً.

وقرأ نافعٌ أيضاً، وأَهل المدينة: «وَرِيّاً» بياء مشددة، فقيل: هي بمعنى القِرَاءةِ الأُولى، وقيل: هي بمعنى الرِّيِّ في السُّقْيَا؛ إذْ أَكْثر النعمة مِنَ الريِّ والمطر.

وقرأ ابنُ جُبَيْر، وابنُ عباسٍ، ويزيدُ البريري: «وَزِيّاً» بالزاي المعجمة؛ بمعنى: المَلْبَسَ.