التفاسير

< >
عرض

قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
١٤٤
وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ
١٤٥
-البقرة

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَاءِ... } الآية: المقْصِد تقلُّب البصر، وأيضاً: فالوجه يتقلَّب بتقلُّب البصر، قال قتادة وغيره: كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقلِّب وجهه في الدعاءِ إلى اللَّه تعالَىٰ؛ أنْ يحوِّله إِلى قبلة مكَّة، ومعنى التقلُّب نحو السماء: أنَّ السماء جهةٌ قد تعوَّد العالَمُ منْها الرحمةَ؛ كالمطر، والأنوار، والوَحْي، فهم يجعلون رغبتهم حيْثُ توالَتِ النعَمُ.

قال: * ص *: { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ }: يدلُّ على تقدير حالٍ، أي: قد نَرَىٰ تقلُّب وجهك في السماءِ طالباً قبلةً غير التي أنْتَ مستقبلها، فلنولينَّكَ. انتهى.

و{ تَرْضَاهَا }: معناه: تحبُّها، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يحبُّ الكعبةَ والتحوُّل عن بيت المَقْدِسِ؛ لوجوه ثلاثة رُوِيَتْ:

أحدها: لقول اليهودِ: «مَا عَلِمَ محمَّدٌ دينَهُ؛ حتَّى ٱتَّبَعَنَا»؛ قاله مجاهد.

الثاني: ليصيب قبلة إِبراهيمَ - عليه السلام - قاله ابن عَبَّاس.

الثالث: ليستألف العربَ؛ لمحبَّتها في الكَعْبة، قاله الربيع والسُّدِّيُّ.

* ع *: والميزابُ هو قبلة المدينةِ والشامِ، وهنالك قبلةُ أهل الأندلسِ بتأريب، ولا خلاف أن الكعبة قبلةٌ من كل أُفُقٍ.

وقوله تعالى: { فَوَلِّ وَجْهَكَ... } الآية: أمر بالتحوُّل، ونسخ لقبلة الشام، و{ شَطْر }: نصبٌ على الظرف، ومعناه: نحو، وتلقاء، { وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ }: أَمْر للأمة ناسخٌ.

{ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ... } الآية: المعنى: أن اليهود والنصارَىٰ يعلمون أن الكعبة هي قبلة إبراهيم أمام الأمم، وأن استقبالها هو الحقُّ الواجب على الجميع ٱتِّباعاً لمحمَّد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه في كتبهم، وتضمَّنت الآيةُ الوعيد.

وقوله جلَّت قدرته: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ... } الآية: أعلَمَ اللَّه تعالى نبيَّه - عليه السلام - حين قالَتْ له اليهودُ: راجِعْ بيْتَ المَقْدِسِ، ونؤمن بكَ؛ أن ذلك مخادَعَةٌ منهم، وأنهم لا يتَّبعون له قِبْلَةً، يعني: جملتهم؛ لأن البعض قد اتبع، كعبد اللَّه بن سَلاَمٍ وغيره، وأنهم لا يؤمنون بدينه، أي: فلا تُصْغِ إِليهم، والآية هنا العَلاَمَةُ.

وقوله جلَّت عظمته: { وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ... } لفظ خبرٍ يتضمَّن الأمر، أي: فلا تركنْ إِلى شيء من ذلك، { وَمَا بَعْضُهُم... } الآية، قال ابن زيد وغيره: المعنى ليستِ اليهودُ متبعةً قبلة النصارَىٰ، ولا النصارَىٰ متبعةً قبلةَ اليهودِ، فهذا إِعلام بٱختلافهم، وتدابرهم، وضلالهم، وقبلةُ النصارَىٰ مَشْرِقُ الشمْسِ، وقبلةُ اليهود بيْتُ المَقْدِسِ.

وقوله تعالى: { وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ... } الآية: خطاب للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمرادُ أمته، وما ورد من هذا النوع الَّذي يوهمُ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم ظُلْماً متوقّعاً، فهو محمولٌ علَىٰ إِرادة أمته؛ لعصمة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقَطْعاً أن ذلك لا يكُونُ منْه، وإِنما المرادُ مَنْ يمكن أن يقع ذلك منه، وخوطِبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم تعظيماً للأمر، قال الفَخْر: ودلَّت هذه الآية علَىٰ أن توجه الوعيد على العلماء أشدُّ من توجُّهه على غيرهم؛ لأن قوله: { مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ } يدلُّ على ذلك. انتهى، وهو حَسَنٌ.

* ص *: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ }: لام «لَئِنْ» مؤذنةٌ بقَسَمٍ مقدَّرٍ قبلها، ولهذا كان الجواب: له { مَّا تَبِعُواْ }، ولو كان للشرط، لدخلت الفاء، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ؛ لدلالة جواب القسم عليه، ومن ثم جاء فعل الشرط ماضياً، لأنه إِذا حذف جوابه، وجب فعله لفظاً. انتهى.