{وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ}: «ٱلْفَتْنَة»: هنا الشِّرْك، وما تابعه من أذى المؤمنين. قاله ابن عَبَّاس وغيره.
و {ٱلدِّينِ } هنا: الطاعةُ، والشَّرْعُ، والانتهاءُ في هذا الموضع يصحُّ مع عموم الآية في الكفار؛ أنْ يكون الدُّخُولَ في الإِسلام؛ ويصحُّ أن يكون أداء الجزية.
وقوله تعالى: {ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَـٰتُ قِصَاصٌ...} الآية: قال ابن عبَّاس وغيره: نزلَتْ في عمرة القَضِيَّةِ، وعامِ الحديبيَةِ سنَةَ ستٍّ، حين صدَّهم المشركون، أي: الشهرُ الحرامُ الذي غلَّبكم اللَّه فيه، وأدخلكم الحَرَمَ عليهم سنَةَ سَبْعٍ - بالشهر الحرامِ الذي صدُّوكم فيه، والحرمات قصاصٌ.
وقالتْ فرقةٌ: قوله: {وَٱلْحُرُمَـٰتُ قِصَاصٌ }: مقطوعٌ مما قبله، وهو ابتداء أمر كان في أول الإِسلام أنَّ من ٱنتهكَ حرمَتَكَ، نِلْتَ منه مثْلَ ما ٱعتدَىٰ عليك.
{وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ}: قيل: معناه في أَلاَّ تعتدوا، وقيل: في ألاَّ تزيدُوا على المثل.
وقوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ...} الآية: سبيلُ اللَّهِ هنا: الجهادُ، واللفظ يتناوَلُ بَعْدُ جميعَ سُبُلِهِ، وفي الصحيح أنَّ أبا أيُّوب الأنصاريَّ كان على القُسْطَنْطِينِيَّةِ، فحمل رجُلٌ على عَسْكَر العدُوِّ، فقال قومٌ: ألقى هذا بيده إِلى التهلكة، فقال أبو أيوب: لا، إِنَّ هذه الآيةَ نزلَتْ في الأنصار، حين أرادوا، لمَّا ظهر الإِسلام؛ أن يتركوا الجهادَ، ويَعْمُروا أموالهم، وأما هذا، فهو الذي قال اللَّه تعالَىٰ فيه:
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآء مَرْضَاتِ ٱللَّهِ } } [البقرة:207].وقال ابن عبَّاس، وحذيفةُ بْنُ اليَمَانِ، وجمهورُ الناس: المعنى: لا تُلْقُوا بأيديكم؛ بأنْ تتركُوا النَّفَقَةَ في سَبِيلِ اللَّه، وتخافوا العَيْلَةَ.
{وَأَحْسِنُواْ }: قيل: معناه: في أعمالكم بٱمتثال الطَّاعات؛ روي ذلك عن بعض الصحابة، وقيل: المعنى: وأحسنوا في الإِنفاق في سبيل اللَّهِ، وفي الصَّدَقَات، قاله زَيْدُ بْنُ أَسْلَم، وقال عِكْرِمَة: المعنَىٰ: وأحْسِنُوا الظنَّ باللَّه عزَّ وجلَّ.
* ت *: ولا شَكَّ أن لفظ الآية عامٌّ يتناول جميعَ ما ذكر، والمخصَّص يفتقر إِلى دليل.
فأما حُسْن الظن باللَّه سبحانه، فقد جاءَتْ فيه أحاديثُ صحيحةٌ، فمنها:
"أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي" ، وفي «صحيح مسلم»، عن جابرٍ، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ: "لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ" انتهى. وأخرج أبو بكر بن الخَطِيبِ، بسنده، عن أنسٍ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ المَرْءِ حُسْنُ ظَنِّهِ" . انتهى. قال عبد الحَقِّ في «العاقبة»: أَمَّا حسْنُ الظنِّ باللَّهِ عزَّ وجلَّ عند الموت، فواجبٌ؛ للحديث. انتهى.
ويدخل في عموم الآية أنواعُ المعروف؛ قال أبو عمر بن عَبْدِ البَرِّ: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ" ، قَالَ أبُو جُرَيٍّ الْهُجَيْمِيُّ؛ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنِي، قَالَ: لاَ تَحْقِرَنَّ شَيْئاً مِنَ المَعْرُوفِ؛ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَوْ أَنْ تُفَرِّغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ المُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تَلْقَىٰ أَخَاكَ، وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ" ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلام: "أَهْلُ المَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ المَعْرُوفِ فِي الآخِرَةِ" ، وقال عليه الصلاة والسَّلام: "إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً خَلَقَهُمْ لِحَوَائِجِ النَّاسِ، هُمُ الآمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ" . انتهى من كتابه المسمَّىٰ بـــ «بهجة المَجَالسِ و أُنْس المُجَالِسِ».