التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَٰواْ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ
٢٧٨
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ
٢٧٩
وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
٢٨٠
وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
٢٨١
-البقرة

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰاْ... } الآية: سبَبُ هذه الآيةِ أنه لما افتتح النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكَّة، قال في خُطْبَتِهِ اليَوْمَ الثانِيَ من الفَتْح: "ألا كُلُّ رِباً فِي الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِباً أَضَعُهُ رِبَا العَبَّاسِ" فبدأ صلى الله عليه وسلم بعَمِّه، وأخَصِّ الناسِ به، وهذه من سنن العَدْلِ للإِمام أنْ يفيض العَدْل على نَفْسه وخاصَّته، فيستفيض في النَّاس، ثم رجع رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِلى المدينةِ، وٱستعملَ علَىٰ مكَّة عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ، فلمَّا ٱستنزل صلى الله عليه وسلم أهْلَ الطائِفِ بَعْد ذلك إِلى الإِسْلامِ، ٱشترطوا شُرُوطاً، وكان في شروطهم: أنَّ كُلَّ رباً لهم على النَّاسِ؛ فإِنهم يأخذونه، وكُلُّ رباً علَيْهم، فهو موضُوعٌ، فيروَىٰ؛ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَّر لهم هذه، ثم ردَّها اللَّه بهذه الآية؛ كما ردَّ صُلْحَه لكُفَّار قُرَيْش في ردِّ النِّسَاءِ إِليهم عامَ الحُدَيْبِية، وذكَرَ النَّقَّاش روايةً؛ "أنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ فِي أَسْفَلِ الكِتَابِ لِثَقِيفٍ: لَكُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيهِمْ" ، فلما جاءَتْ آجال رِبَاهُمْ، بعثوا إِلى مكَّة لِلاقتضاءِ، وكانَتْ علَىٰ بني المُغِيرَةِ للمَخْزُومِيِّينَ، فقال بنو المُغِيرَةِ: لا نُعْطِي شَيئاً؛ فإِن الربَا قد وُضِعَ، ورفعوا أمرهم إِلى عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ بمكَّة، فَكَتَب به إِلَىٰ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتِ الآية، وكتَبَ بها رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِلَىٰ عتَّابٍ، فعلمتْ بها ثقيفٌ، فكَفَّت: هذا سببُ الآية على اختصارٍ ممَّا روى ابْنُ إِسحاق، وابْنُ جُرَيْجٍ، والسُّدِّيُّ وغيرهم.

فمعنى الآية: اجعلوا بينكم وبيْنَ عذابِ اللَّهِ وقايةً بترككمْ ما بَقِيَ لكُمْ من رباً، وصَفْحِكُمْ عنه، ثم توعَّدَهُمْ تعالَى، إِن لم يذروا الربَا بحَرْبٍ منه، ومِنْ رسوله، وأمَّته، والحَرّب داعية القَتْلِ.

وقوله تعالى: { فَأْذَنُواْ } قال سِيبَوَيْهِ: آذَنْتُ: أعْلَمْتُ.

* ت *: وهكذا فسره البخاريُّ، فقال: قال أبو عبد اللَّهِ: فَأذَنُوا، فَٱعلَمُوا، وقال: * ع *: هي عنْدِي من الأَذَنِ، وقال ابن عَبَّاس وغيره: معناه فٱستيقِنُوا بحَرْبٍ.

ثم ردَّهم سبحانه مع التوبة إِلى رءوس أموالهم، وقال لهم: لا تَظْلِمُونَ في أخذِ الزائِدِ، ولا تُظْلَمُونَ في أنْ يتمسَّك بشيء من رءوس أموالكُمْ، ويحتمل لا تَظْلِمُونَ في مَطْلٍ، لأن مَطْل الغنيِّ ظُلْمٌ؛ كما قال - عليه الصلاة والسلام - فالمعنَىٰ أنه يكون القضاءُ، مع وضْعِ الربا؛ وهكذا سنة الصُّلْح، وهذا أشبه شيء بالصُّلْح؛ ألا ترَىٰ "أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أشارَ علَىٰ كَعْبِ بْنِ مالِكٍ في دَيْنِ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ بِوَضْعِ الشَّطْرِ، فقال كَعْبٌ: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلآخَرِ: قُمْ، فَٱقْضِهِ" ، فَتلقَّى العلماءُ أمره بالقَضَاء سُنَّةً في المصالَحَاتِ.

وقوله سبحانه: { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ } حكم اللَّه تعالَىٰ لأرباب الربَا برُءُوس أموالهم عنْدَ الواجدين للمال، ثم حكم في ذِي العُسْرَةِ بالنَّظَرَةِ إِلى حال اليُسْرِ، والعُسْرُ: ضيقُ الحالِ من جهة عدمِ المالِ، والنَّظِرَةُ التأخيرُ.

* ت *: وفي «الصحيحين» عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِراً، فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، قَالَ: فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ" ، وفي «صحيح مسلمٍ»: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كَرْبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ" ، وفي روايةٍ: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أنْجَاهُ اللَّهُ مِنْ كَرْبِ يَوْمِ القِيَامَةِ" ، وفي رواية: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ" . انتهى.

والمَيْسَرَةُ: مصدرٌ بمعنى اليُسْرِ، وٱرتفع: «ذُو عُسْرَةٍ» بـــ «كان» التامة الَّتي هي بمعنى: «وُجِدَ، وَحَدَثَ»، وارتفعَ قَوْلِه: «فَنَظِرَةٌ»؛ علَى خبر ابتداءٍ مقدَّر، تقديره فالواجبُ نَظِرَةٌ.

واختلف أهْلُ العلْمِ هلْ هذا الحُكْم بالنَّظِرَةِ إِلى الميسرةِ واقفٌ علَىٰ أهل الربا خاصَّة، وهو قول ابن عبَّاس، وشُرَيْح، أو هو منسحبٌ علَىٰ كلِّ دَيْنٍ حلالٍ، وهو قولُ جمهور العلماء؟

* ع *: وما قاله ابن عبَّاس إِنما يترتَّب، إِذا لم يكُنْ فقر مُدْقِعٌ، وأما مع الفقر والعُدْمِ الصريحِ، فالحُكْمُ هي النَّظِرة ضرورةً.

* ت *: ولا يخالف ابن عبَّاس في ذلك.

وقوله تعالى: { وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ }: نَدَبَ اللَّه بهذه الألفاظ إِلى الصدَقَة على المُعْسِر، وجعل ذلك خيراً من إنظاره، قاله جمهور العلماء.

وروى سعيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، عن عمر بن الخَطَّاب؛ أنه قَالَ: كان آخر ما نَزَلَ من القُرآن آية الربا، وقُبِضَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ولَمْ يفسِّرْها لَنَا، فدَعُوا الرِّبَا والرِّيبَةَ.

وقال ابن عباس: آخر ما نزل آية الربا.

قال: * ع *: ومعنى هذا عنْدي، أنها من آخر ما نَزَلَ؛ لأن جمهور النَّاس؛ ابنُ عبَّاس، والسُّدِّيُّ، والضَّحَّاك، وابنُ جْرَيجٍ، وغيرهم، قالوا: آخر آية نزلَتْ قوله تعالى: { وَٱتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ }، ورُوِيَ أَنَّ قوله: { وَٱتَّقَواْ } نزلَتْ قبل موْتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بِتِسْعِ ليالٍ، ثم لم ينزلْ بعدها شيْءٌ، ورُوِيَ بثلاثِ ليالٍ، وروي أنَّها نزلَتْ قبل موتِهِ بثَلاَثِ ساعَاتٍ، وأنَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ٱجْعَلُوهَا بَيْنَ آيَةِ الرِّبَا وَآيَةِ الدَّيْنِ" ، وحكَىٰ مَكِّيٌّ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: ٱجْعَلْهَا عَلَىٰ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنَ البَقَرةِ"

وقوله تعالى: { وَٱتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ... } الآية، وعْظٌ لجميعِ الناسِ، وأمْرٌ يخصُّ كلَّ إِنسان.

* ت *: حدَّثني من أثقُ به؛ أنه جَلَسَ عند شَيْخٍ من الأفاضلِ يُجَوَّدُ علَيْه القُرآن، فقرئَتْ عليه هذه الآيةُ، فَبَكَىٰ عندها، ثم بَكَىٰ، إِلَىٰ أَنْ فاضتْ نفْسُه، ومَالَ، فحَرَّكُوه، فإِذا هو مَيِّتٌ ـــ رَحِمَهُ اللَّهُ ـــ ونَفَعَ بِهِ، يَا هَذَا، مَنْ صَحَا عَقْلُه مِنْ سُكْر هواه، وجَهْلِهِ، ٱحْتَرَقَ بنَارِ النَّدَمِ والخَجَلِ مِنْ مهابة نَظَرِ ربِّه، وتنكَّرت صُورةُ حالِهِ في عَيْنِهِ نفوسَ الأغبياءِ الجُهَّال، غَافِلَةً عن العظمة والجَلاَل، ولاَهِيَةً عن أهْوَال المَعَاد والمَآل، مَشْغُولَةً برذائلِ الأفْعَال، وفُضُولِ القِيلِ والقَال، والاِستنباطِ والاِحْتِيَالِ؛ لاِزدياد الأمْوَال، ولا يَعْلَمُون أنَّها فِتْنَةٌ وَوَبَال، وطُولُ حِسَابٍ وبَلاَء وبَلْبَالَ، ٱغتَنِمُوا، يا ذوِي البَصَائر نعْمَةَ الإِمهال، وٱطَّرِحُوا خَوَادِع الأمانِي، وكَوَاذِب الآمال، فكأنْ قد فجأتْكُم هواجمُ الآجال. انتهى من «الكَلِمِ الفارقيَّة، فِي الحِكَمِ الحقيقيَّة».

و { يَوْماً }: نصب على المفعول، لا على الظرف، وجمهور العلماء على أنَّ هذا اليوم المحذَّر منه هو يومُ القيامةِ، والحِسَابِ والتوفيةِ، وقال قومٌ: هو يوم المَوْت، والأول أصَحُّ، وهو يومٌ تنفطرُ لذكْره القُلُوب، وفي هذه الآيةِ نصٌّ علَىٰ أنَّ الثواب والعقابَ متعلِّق بكَسْب الإِنْسَان، وهذا ردٌّ على الجبريَّة.