التفاسير

< >
عرض

وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَٰنٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
٢٨٣
للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٨٤
ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ
٢٨٥
-البقرة

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ... } الآية: لما ذكر اللَّه تعالى الندْبَ إِلى الإِشهاد، والكتْبِ؛ لمصلحة حفظ الأموال والأديان ـــ عقَّب ذلك بذكْر حال الأعذار المانعة من الكتب، وجعل بدلها الرهْنَ، ونصَّ على السفر؛ إِذ هو الغالب من الأعذار، ويدخل في ذلك بالمعنَىٰ كلُّ عذر.

قال: * ع *: رَهَنَ الشَّيْءَ؛ في كلام العرب معناه: دَامَ، وٱستمرَّ، قيل: ولما كان الرهنُ بمعنى الثبوتِ، والدوامِ، فمِنْ ثَمَّ بطَل الرهْنُ؛ عند الفقهاء: إِذا خرج مِنْ يد المرتَهِن إِلى يد الراهِنِ؛ لأنه فَارَقَ ما جُعِلَ له.

وقوله تعالى: { مَّقْبُوضَةٌ }: هي بينونةُ المرتَهَنِ بالرَّهْن.

وأجمع الناس علَىٰ صحَّة قَبْض المرتَهَن؛ وكذلك علَىٰ قبض وكيله؛ فيما علمتُ.

واختلفوا في قَبْض عدلٍ يوضَعُ الرهْنُ على يدَيْه.

فقال مالك، وجميعُ أصحابه، وجمهور العلماء: قَبْض العَدْل قبضٌ.

وقال الحَكَم بن عُتَيْبَةَ، وغيره: ليس بقَبْض.

وقولُ الجمهورِ أصحُّ؛ من جهة المعنى في الرهن.

وقوله تعالى: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا }: شرطٌ ربَطَ به وصيَّةَ الذي علَيْه الحقُّ بالأداء.

قال ابن العربيِّ في «أحكامه»: قوله تعالى: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا }: معناه: إن أسقط الكَتْبَ، والإِشهادَ، والرَّهْنَ، وعوَّل على أمانة المعامَلِ، فليؤدِّ الأمانةَ، وليتَّقِ اللَّه ربَّه؛ وهذا يبيِّن أنَّ الإِشهاد ليس بواجبٍ؛ إِذ لو كان واجباً، لما جاز إِسقاطه، ثم قال: وجملة الأمر أنَّ الإِشهاد حزْم، والاِئتمانَ ثقةٌ باللَّه تعالَىٰ من الدائنِ، ومروءةٌ من المِدْيَان، ثم ذكر الحديثَ الصحيحَ في قصَّة الرَّجُل من بني إِسرائيل الذي استسْلَفَ ألْفَ دينارٍ، وكيف تَعَامَلاَ علَىٰ الٱئتمانِ، ثم قال ابنُ العربيِّ: وقد رُوِيَ عن أبي سعيد الخدريِّ؛ أنه قرأ هذه الآية، فقال: هذا نسخ لكلِّ ما تقدَّم، يعني: من الأمر بالكَتْب، والإِشهاد، والرهن. اهـــ.

وقوله: { فَلْيُؤَدِّ }: أمر بمعنى الوجوبِ، وقوله: { أَمَـٰنَتَهُ }: مصْدَرٌ سُمِّيَ به الشيْء الذي في الذمَّة.

وقوله تعالى: { وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَـٰدَةَ... } الآية: نهي فيه تهديدٌ ووعيدٌ، وخص تعالَىٰ ذكْر القَلْب؛ إذ الكَتْم من أفعاله، وإِذ هو البُضْعَةُ التي بصلاحها يصْلُحُ الجَسَدُ كُلُّه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم، وفي قوله تعالى: { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } توعُّدٌ، وإِنْ كَانَ لفظُها يعمُّ الوعيدَ والوَعْدَ.

وروى البَزَّارُ في «مسنده»، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: "مَنْ مَشَىٰ إِلَىٰ غَرِيمِهِ بِحَقِّهِ، صَلَّتْ عَلَيْهِ دَوَابُّ الأَرْضِ، وَنُونُ المَاءِ، ونَبَتَتْ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ شَجَرَةٌ، تُغْرَسُ فِي الجَنَّةِ، وَذَنْبُهُ يُغْفَرُ" اهـــ من «الكوكب الدري».

قوله تعالى: { للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ... } الآية: المعنَىٰ: جميعُ ما في السمواتِ، وما في الأرض مِلْكٌ له سُبْحَانَهُ.

وقوله تعالى: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ... } الآية: قوله: { مَا فِي أَنفُسِكُمْ } يقتضي قوَّةُ اللفظ أنَّه ما تقرَّر في النفْسِ، وٱستصحبتِ الفكْرةَ فيه، وأما الخواطر التي لا يُمْكِنُ دفْعُها، فليسَتْ في النفْسِ، إِلا علَىٰ تجوُّز.

وٱختلف في معنى هذه الآية.

فقال عِكْرِمَةُ وغيره: هي في معنى الشهادةِ التي نُهِيَ عن كتمها، فلفظ الآية؛ علَىٰ هذا التأويل: العمومُ، ومعناه الخصوصُ؛ وكذا نقل الثعلبيُّ.

وقال ابن عبَّاس: وأبو هريرة، وجماعةٌ من الصَّحابة والتابعين: إِن هذه الآية، لَمَّا نزلَتْ، شَقَّ ذلك على الصَّحابة، وقالوا: هَلَكْنَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ حُوسِبْنَا بِخَوَاطِرِ نُفُوسِنَا، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لكِنَّهُ قَالَ لَهُمْ: "أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا، كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا فَقَالُوهَا: فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ: { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة:286]؛ ونَسَخ بِهَذِهِ تِلْكَ" هذا معنى الحديثِ الصحيحِ، وله طرقٌ من جهاتٍ، واختلفتْ عباراته، وتعاضَدَتْ عبارةُ هؤلاء القائلين بلفظة النَّسْخِ في هذه النازلةِ.

وقال ابن عبَّاس: لما شقَّ ذلك علَيْهم، فأنزل اللَّه تعالَىٰ: { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا... } الآية، فنسختِ الوسوسةُ، وثَبَتَ القوْلُ، والفعْلُ.

وقال آخرون: هذه الآيةُ محكمةٌ غير منْسُوخةٍ، واللَّه محاسِبٌ خلقه علَىٰ ما عملوه، وأضمروه، وأرادوه، ويَغْفِرُ للمؤمنين، ويأخذ به أهل الكفر والنفاق؛ ورجَّح الطبريُّ أنَّ الآية محكَمَةٌ غير منْسُوخة.

* ع *: وهذا هو الصوابُ، وإِنَّما هي مخصَّصة، وذلك أنَّ قوله تعالى: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ }: معناه: بما هو في وُسْعكم، وتحْتَ كَسْبِكُم، وذلك استصحابُ المعتقد، والفِكْر فيه، فلما كان اللفظ ممَّا يمكنُ أنْ تدخل فيه الخواطرُ، أشفَقَ الصحابةُ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم فبيَّن اللَّه تعالَىٰ لهم ما أراد بالآيةِ الأولَىٰ، وخصَّصَها، ونصَّ على حُكْمِهِ؛ أنه لا يكلِّف نفْساً إِلا وسْعَهَا، والخواطرُ ليْسَتْ هي، ولا دفعُهَا في الوُسْع، بل هي أمر غالبٌ، وليست مما يُكْسَبُ، ولا يُكْتَسَبُ، وكان في هذا البيان فَرَحُهُمْ، وكَشْفُ كربهم، وتأتي الآية محكمةً لا نَسْخَ فيها، وممَّا يدفع أمر النَّسْخ؛ أن الآية خَبَرٌ، والأخبار يدخُلُها النَّسْخُ، فإن ذهب ذاهبٌ إِلى تقرير النَّسْخِ، فإِنما يترتَّب له في الحُكْم الذي لَحِقَ الصحابة، حِينَ فزعوا من الآية، وذلك أن قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لهم: «قولُوا سَمِعْنَا وأطعنا»، يجيء منْه: الأمر بأن يبنُوا علَىٰ هذا، ويلتزموه، وينتظروا لُطْفَ اللَّه في الغُفْران، فإِذا قرّر هذا الحكم، فصحيحٌ وقوعُ النَّسْخ فيه، وتشبه الآية حينئذٍ قوله تعالَى: { { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَـٰبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } [الأنفال:65]، فهذا لفظه الخَبَرُ، ولكنَّ معناه: ٱلتزموا هذا، وٱبنُوا عليه، واصبروا بحَسَبِهِ، ثم نسخ ذلك بَعْد ذلك، فهذه الآية في البقرة أشبهُ شَيْء بها.

وقوله تعالى: { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ }، يعني: من العصاةِ، وتعلَّق قومٌ بهذه الآية ممَّن قال بجوازِ تكْليفِ ما لا يُطَاقُ، وقالوا: إِن اللَّه قد كلَّفهم أمْرَ الخواطرِ، وذلك مما لا يِطَاق، قال: * ع *: وهذا غير بيِّن، وإِنما كان أمر الخواطر تأويلاً أوَّله أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولم يثبتْ تكليفاً إِلا على الوَجْه الذي ذكَرْناه من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم، إِنَّهُ علَىٰ ذلك، قال الشيخ الوليُّ العارفُ باللَّه ٱبْنُ أبي جَمْرَةَ: والخواطرُ عندهم ستَّةٌ يعني عند العلماءِ العارفينَ باللَّه: أولُها الهَمَّة، ثم اللَّمَّة، ثم الخَطْرة؛ وهذه الثلاثُ عندهم غَيرْ مُؤاخذٍ بها، ثم نِيَّة، ثمَّ إرادَةٌ، ثم عَزِيمَةٌ، وهذه الثلاثُ مؤَاخذ بها. اهـ.

وقوله تعالى: { آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ... } الآية: سببُ هذه الآية أنَّه لما نزلَتْ: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ }، وأشفق منها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم تقرَّر الأمر على أنْ قالوا:«سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا»، ورجعوا إِلى التضرُّع والاِستكانةِ، مدَحَهم اللَّه تعالَىٰ، وأثنَىٰ عليهم في هذه الآيةِ، وقدَّم ذلك بين يدَيْ رِفْقِهِ بهم، فجمع لهم تعالَى التشْريفِ بالمَدْحِ، والثناءِ، ورفع المشقَّة في أمر الخواطرِ، وهذه ثمرة الطَّاعَة والانقطاعِ إِلى اللَّه تعالَىٰ، لا كما قالتْ بنو إِسرائيل: { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } [البقرة:93]؛ فأعقبهم ضدَّ ذلك، وهذه ثمرة العصيان، أعاذنا اللَّه من نِقَمِهِ.

و { آمَنَ } معناه: صدَّق، والرسولُ: محمَّد صلى الله عليه وسلم، و { مَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ }: القُرآن، وسائرُ ما أوحى اللَّه إِلَيْه من جملة ذلك، وكُلُّ لفظة تصلح للإِحاطة، وهي كذلك هُنَا، والإِيمانُ باللَّه: هو التصديقُ به، أي: بوجودِهِ وصفاتِهِ، ورفْضُ كلِّ معبود سواه، والإِيمان بملائكته: هو اعتقادُهم أنهم عبادُ لِلَّهِ مكْرَمُون، لا يعصُون اللَّه ما أمرهم، ويَفْعَلُون ما يُؤْمَرون، والإِيمان بكتبه: هو التصديقُ بكلِّ ما أَنْزَلَ سبحانه علَىٰ أنبيائه.

وقرأ الجمهور: { لاَ نُفَرِّقُ }؛ بالنون. والمعنَىٰ: يقولون: لا نفرِّق.

ومعنَىٰ هذه الآية: أن المؤمنين ليسوا كاليَهُودِ والنصارَىٰ؛ في أنَّهم يؤمنون ببَعْضٍ، ويكفرون ببعض.

وقوله تعالى: { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا }: مدح يقتضي الحضَّ على هذه المقالة، وأنْ يكون المؤمنُ يمتثلُها غَابِرَ الدَّهْر، والطاعةُ: قبولُ الأوامرِ، و { غُفْرَانَكَ }: مصدرٌ، والعاملُ فيه فَعْلٌ، تقديره: نَطْلُبُ أوْ نَسْأَلُ غُفْرَانَكَ.

* ت *: وزاد أبو حَيَّان، قال: وجوَّز بعضُهم الرفْعَ فيه، علَىٰ أنْ يكون مبتدأً، أيْ: غفرانُكَ بُغْيَتُنَا. اهـــ.

{ وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ }: إِقرار بالبعثِ، والوقوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ سبحانه، وروي أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لما أنزلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ، قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَجَّلَ الثَّنَاءَ عَلَيْكَ، وَعَلَىٰ أُمَّتِكَ، فَسَلْ تُعْطَهْ، فَسَأَلَ إِلَىٰ آخِرِ السُّورَةِ.