وقوله تعالى: { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ } الآية: { فَرَقْنَا }: معناه: جعلْنَاه فِرَقاً، ومعنى { بِكُمُ } أي: بسببكم، والبحر هو بحر القُلْزُمِ ولم يفرق البحر عَرْضاً من ضفَّة إلى ضفَّة، وإنما فرق من موضع إلى موضع آخر في ضفة واحدة، وكان ذلك الفرق يُقَرِّبُ موضع النجاة، ولا يلحق في البر إلا في أيام كثيرةٍ بسبب جبالٍ وأوغار حائلة، وقيل: انفرق البحْرُ عَرْضاً على ٱثْنَيْ عَشَرَ طَريِقاً؛ طريق لكلِّ سبط، فلما دخلوها، قالَتْ كل طائفة: غَرِقَ أصحابنا، وجَزِعُوا، فقال موسَىٰ ـــ عليه السلام ـــ: اللهمَّ، أَعِنِّي علَىٰ أخلاقهِمُ السَّيئة، فأوْحَى اللَّه إِلَيْه أَنْ أدِرْ عصَاك على البَحْر، فأدارها، فصار في الماء فتوحٌ كالطَّاق، يرَىٰ بعضهم بعضًا، وجازوا وجبريلُ في ساقتهم عَلَىٰ مَاذِيَانةٍ يحث بني إسرائيل، ويقول لآلِ فرْعَوْنَ: مَهْلاً حتَّىٰ يلحق آخركم أوَّلَكُم، فلما وصل فرعونُ إلى البحر، أراد الدخول، فنفر فرسُهُ، فتعرَّض له جبريلُ بالرَّمَكَة، فأتبعها الفرَسُ، ودخَل آلُ فرعَوْن، وميكائلُ يحثهم، فلما لم يبق إلا ميكائلُ في ساقتهم على الضّفَّة وحده، انطبَقَ البحْرُ عليهم، فغرقوا.
وَ { تَنظُرُونَ }: قيل: معناه بأبصاركم لقُرْبِ بعضهم من بعضٍ، وقيل: ببصائركم لِلٱعتبار؛ لأنهم كانوا في شُغُلٍ.
قال الطبريُّ: وفي أخبار القرآن على لسان النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذه المغيَّبات التي لم تكُنْ من علم العَرَب، ولا وقعتْ إلا في خفيِّ علْمِ بني إسرائيل دليلٌ واضحٌ عند بني إسرائيل، وقائمْ عليهم بنبوءة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم.
وموسَى: اسم أَعْجميٌّ، قال ابن إِسحاقَ: هو مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهرَ بْنِ قَاهَثَ بْنِ لاَوى بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الخَليِلِ صلى الله عليه وسلم.
وخص الليالي بالذكْرِ في قوله تعالَىٰ: { وَإِذْ وٰعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } إِذ الليلة أقدم من اليوم، وقبله في الرتبة، ولذلك وقع بها التاريخُ، قال النقَّاش: وفي ذلك إشارة إلى صلة الصوم؛ لأنه لو ذكر الأيام، لأَمْكَن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل، فلما نصَّ على الليالي، ٱقتضَتْ قوة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين ليلةً بأيامها.
قال: * ع *: حدَّثني أبي ـــ رضي اللَّه عنه ـــ قال: سمعتُ الشيخَ الزاهد الإِمام الواعظَ أبا الفضل بْنَ الجوهَرِيِّ ـــ رحمه اللَّه ـــ يعظُ النَّاسَ بهذا المعنى في الخلوة باللَّه سبحانه، والدنوِّ منه في الصلاة، ونحوه، وأنَّ ذلك يشغل عن كل طعامٍ وشرابٍ، ويقول: أين حال موسَىٰ في القرب من اللَّه، ووصالِ ثمانين من الدهْرِ من قوله، حين سار إلى الخَضِرِ لفتاه في بعض يوم:
{ آتِنَا غَدَاءَنَا } [الكهف:62]. * ت *: وأيضاً في الأثر أنَّ موسَىٰ لم يصبه، أو لم يشك ما شكاه من النَّصَب؛ حتى جاوز الموضع الذي وعد فيه لقاء الخَضِرِ عليهما السلام.
قال: * ع *: وكل المفسِّرين على أن الأربعين كلَّها ميعاد.
وقوله تعالى: { ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ } أي: إلهاً، والضمير في { بَعْدِهِ } يعود على موسَىٰ، وقيل: على انطلاقه للتكليمِ؛ إذ المواعدة تقتضيه، وقصص هذه الآية أن موسَىٰ عليه السلام، لما خرج ببني إسرائيل من مصْرَ، قال لهم: إن اللَّه تعالى سينجِّيكم من آل فرعَوْنَ، وينفلكم حُلِيَّهُمْ، ويروى أن استعارتهم للحُلِيِّ كانت بغَيْرِ إذن موسَىٰ ـــ عليه السلام ـــ وهو الأشبه به، ويؤيِّده ما في سورة طه في قولهم لموسى:
{ وَلَـٰكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا } }، [طه:87] فظاهرُهُ أنهم أخبروه بما لم يتقدَّم له به شعورٌ، ثم قال لهم موسَىٰ: إنه سينزل اللَّه عليَّ كتابًا فيه التحليلُ والتحريمُ والهُدَىٰ لكم، فلما جازوا البحر، طلبوا موسَىٰ بما قال لهم من أمر الكتاب، فخرج لميعاد ربه وحده، وقد أعلمهم بالأربعين ليلةً، فعدوا عشرين يوماً بعشرين ليلة، وقالوا: هذه أربعون من الدهر، وقد أَخْلَفَنَا المَوْعِدَ، وبدا تعنُّتهم وخلافُهم، وكان السامريُّ رجلاً من بني إسرائيل يسمى موسى بْنَ ظفر، ويقال: إِنه ابْنُ خالِ مُوسَىٰ، وقيل: لم يكن من بني إسرائيل، بل كان غريباً فيهم، والأول أصحُّ، وكان قد عرف جبريلَ عليه السلام وقت عبورهم، قالت طائفة: أنكَرَ هَيْئَتَهُ، فعرف أنه ملَكٌ، وقالت طائفة: كانت أم السامريِّ ولدته عام الذبْحِ، فجعلته في غَارٍ وأطبقت عليه، فكان جبريل عليه السلام يَغْذُوهُ بأصبع نفسه، فيجد في أصبع لَبَناً وفي أصبع عَسَلاً، وفي أصبع سَمْناً، فلما رآه وقت جواز البحْرِ، عرفه، فأخذ من تحت حافرِ فرسه قبضةَ ترابٍ، وألقَىٰ في روعِهِ؛ أنه لن يلقيها على شيء، ويقول له: كن كذا إلا كان، فَلَمَّا خرج موسَىٰ لميعاده، قال هارون لبنِي إسرائيل: إِن ذلك الحُلِيَّ والمتاعَ الذي استعرتم من القِبْط لا يحلُّ لكم، فَجِيئوا به؛ حتى تأكله النار التي كانت العادةُ أن تنزل على القرابين. وقيل: بل أوقد لهم ناراً، وأمرهم بطرح جميعِ ذلك فيها، فجعلوا يطرحون.
وقيل: بل أمرهم أن يضعوه في حُفْرة دُون نار حتَّىٰ يجيء موسَىٰ، وروي، وهو الأصحُّ الأكثر؛ أنه ألقى الناسُ الحُلِيَّ في حفرة، أو نحوِها، وجاء السامريُّ، فطرح القبضة، وقال: كن عجلاً.
وقيل: إن السامريَّ كان في أصله من قوم يعبدون البقر، وكان يعجبه ذلك.
وقيل: بل كانت بنو إسرائيل قد مرَّت مع موسَىٰ على قوم يعبدون البَقَرَ.
* ت *: والذي في القرآن:
{ { يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَهُمْ } }، [الأعراف:138] قيل: كانت على صور البقر، { { فَقَالُواْ يا مُوسَى ٱجْعَلْ لَنَا إِلَـٰهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة } }، [الأعراف:138] فوعاها السامريُّ، وعلم أن من تلك الجهة يفتنون، ففتنت بنو إسرائيل بالعجل، وظلَّت منهم طائفةٌ يعبدونه، فٱعتزلهم هارونُ بمن تبعه، فجاء موسَىٰ من ميعاده، فغضب حسبما يأتي قصصه في مواضعه، إن شاء اللَّه تعالى، ثم أوحى اللَّه إِليه؛ أنه لن يتوب علَىٰ بني إِسرائيل؛ حتى يقتلوا أنفسهم، ففعلَتْ بنو إِسرائيل ذلك، فروي أنهم لبسوا السلاح مَنْ عَبَدَ منهم، ومن لم يَعْبُد، وألقى اللَّه عليهم الظلام، فقتل بعضهم بعضاً، يقتل الأب ابنه، والأخ أخاه، فلما استحر فيهم القتْلُ، وبلغ سبعين ألفاً، عفا اللَّه عنهم، وجعل من مات شهيداً، وتاب على البقية؛ فذلك قوله سبحانه: { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم } وقال بعض المفسِّرين: وقف الذين عبدوا العجْلَ صفًّا، ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح، فقتلوهم، وقالت طائفة: جلس الذين عبدوا بالأفْنِيَةِ، وخرج يُوشَعُ بنُ نُونٍ ينادي: ملعونٌ مَن حَلَّ حُبْوَتَهُ، وجعل الذين لم يعبدوه يقتلونهم، وموسى صلى الله عليه وسلم في خلالِ ذلك يدعو لقومه، ويَرْغَبُ في العفو عنهم، وإِنما عوقب الذين لم يعبدوا بقتل أنفسهم على أحد الأقوال؛ لأنهم لم يغيِّروا المُنْكَرَ حين عُبِدَ العِجْلُ. { وَأَنتُمْ ظَـٰلِمُونَ } ابتداءٌ وخبرٌ في موضع الحالِ، والعفو تغطيةُ الأثر، وإِذهابُ الحالِ الأول من الذنب أو غيره.
* ت *: ومنه الحديثُ:
"فَجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تعفي أَثَرَهَا" . قال: * ع *: ولا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذَّنْبِ، والكتابُ هنا هو التوراةُ بإجماع، واختلف في الفُرْقَانِ هنا، فقال الزجَّاج وغيره: هو التوراة أيضاً؛ كرر المعنى؛ لاختلاف اللفظ، وقال آخرون: الكتاب التوراةُ، والفرقانُ سائر الآيات التي أوتي موسَىٰ عليه السلام؛ لأنها فَرَقَتْ بين الحق والباطل، واختلف هل بقي العجْلُ مِنْ ذَهَب؟ فقال ذلك الجمهور، وقال الحسن بن أبي الحسن: صار لحماً ودماً، والأول أصحُّ.
* ت *: وقوله تعالَىٰ: { فَتُوبُواْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ } عن أبي العالية: إلى خالقكم؛ مِنْ بَرَأَ اللَّهُ الخَلْقَ، أي: خلقهم، فالبريئة: فَعِيلَةٌ بمعنى مفعولة. انتهى من «مختصر أبي عبد اللَّه اللَّخْميِّ النحوي للطبريِّ».