التفاسير

< >
عرض

فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ
٧٩
وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٨٠
بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٨١
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٨٢
-البقرة

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَـٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ }.

قال الخليلُ: «الوَيْلُ»: شِدَّةُ الشر، وهو مصدر، لا فِعْلَ له، ويجمع على وَيْلاَتٍ، والأحسن فيه إِذا انفصل: الرفْعُ؛ لأنه يقتضي الوقُوعَ، ويصحُّ النصب على معنى الدُّعَاء، أي: ألزمه اللَّه وَيْلاً، ووَيْلٌ ووَيْحٌ ووَيْسٌ تتقاربُ في المعنى، وقد فرق بينها قوم.

وروَىٰ سفيانُ، وعطاءُ بنُ يَسارٍ؛ أن الوَيْلَ في هذه الآية وادٍ يجري بفناءِ جهنَّم من صديد أهل النار.

وروى أبو سعيد الخُدْرِيُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم "أنه وادٍ في جهنَّم بيْن جبَلَيْنِ يَهْوِي فيه الهاوِي أربعِينَ خَرِيفاً "

وروى عثمانُ بن عفَّانَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم "أنه جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ النَّار" ، والذين يكْتُبُونَ: هم الأَحْبَارُ والرؤساءُ.

و { بِأَيْدِيهِمْ } قال ابن السَّرَّاج: هي كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، والذي بدَّلوه هو صفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ ليستديمُوا رياستهم ومكاسبهم، وذكر السُّدِّيُّ؛ أنهم كانوا يكتبون كتباً يبدِّلون فيها صفةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ويبيعونَهَا من الأَعراب، ويبثُّونها في أتباعهم، ويقولون هي من عند اللَّه، والثَّمَنُ: قيل: عَرَضُ الدنيا، وقيل: الرُّشَا والمآكلُ التي كانتْ لهم، و { يَكْسِبُونَ } معناه: من المعاصي، وقيل: من المال الذي تضمنه ذكر الثَّمَن.

وقوله تعالى: { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً... }: روى ابن زَيْد وغيره؛ أنَّ سببها "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْيَهُودِ: مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ فَقَالُوا: نَحْنُ، ثُمَّ تَخْلُفُونَا أَنْتُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ؛ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّا لاَ نَخْلُفُكُمْ" فنزلَتْ هذه الآية.

قال أهل التفسير: العهد في هذه الآية: الميثاقُ والموعد، و «بَلَىٰ» رد بعد النفْيِ بمنزلة «نَعَمْ» بعد الإِيجاب، وقالت طائفة: السيئة هنا الشرك؛ كقوله تعالَىٰ: { وَمَنْ جَاءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى ٱلنَّارِ } [النمل:90] والخَطِيئاتُ: كبائر الذنوب، قال الحسن بن أبي الحسن، والسُّدِّيُّ: كل ما توعد اللَّه عليه بالنار، فهي الخطيئة المحيطَةُ، والخلودُ في هذه الآية على الإِطلاق والتأبيد في الكُفَّار، ومستعار؛ بمعنى الطُّول في العُصَاة، وإِن علم انقطاعه.

قال محمَّد بن عبد اللَّه اللَّخْمِيُّ في مختصره للطبريِّ: أجمعتِ الأمَّة علَىٰ تخليد مَنْ مات كافراً، وتظاهرت الرواياتُ الصحيحةُ عن الرسُول صلى الله عليه وسلم والسلفِ الصالح، بأن عصاة أهل التوحيد لا يخلَّدون في النار، ونطق القرآن بــ { { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } [النساء:116] لكن من خاف على لَحْمه ودَمِه، ٱجْتَنَبَ كل ما جاء فيه الوعيدُ، ولم يتجاسَرْ على المعاصي؛ ٱتكالاً علَىٰ ما يرى لنفسه من التوحيد، فقد كان السلف وخيار الأمة يخافُون سلْب الإِيمان على أنفسهم، ويخافون النفاقَ عليها، وقد تظاهرتْ بذلك عنهم الأخبار. انتهى.

وقوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ... } الآية: يدلُّ هذا التقسيم على أن قوله تعالى: { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } الآية في الكفار، لا في العصاة؛ ويدل على ذلك أيضاً قوله: { وَأَحَـٰطَتْ }؛ لأن العاصي مؤمنٌ، فلم تحط به خطيئاته؛ ويدل على ذلك أيضاً أن الردَّ كان على كُفَّارٍ ادَّعَوْا أنَّ النَّارَ لا تَمَسُّهم إلا أياماً معدودةً، فهم المراد بالخلود، واللَّه أعلم.