التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ
١٥
فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ
١٦
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ
١٧
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ
١٨
قَالَ أَلْقِهَا يٰمُوسَىٰ
١٩
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ
٢٠
قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلأُولَىٰ
٢١
وَٱضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ آيَةً أُخْرَىٰ
٢٢
لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا ٱلْكُبْرَىٰ
٢٣
ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ
٢٤
قَالَ رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي
٢٥
وَيَسِّرْ لِيۤ أَمْرِي
٢٦
وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي
٢٧
يَفْقَهُواْ قَوْلِي
٢٨
وَٱجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي
٢٩
هَارُونَ أَخِي
٣٠
ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِي
٣١
وَأَشْرِكْهُ فِيۤ أَمْرِي
٣٢
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً
٣٣
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً
٣٤
إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً
٣٥
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰمُوسَىٰ
٣٦
-طه

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقولُه تعالى: { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ }: يريدُ: القيامةَ آتيةٌ، فيه تحذيرٌ وَوَعِيدٌ.

وقرأ ابنُ كَثِير، وعاصِمٌ: «أَكَاد أَخفيها» - بفتح الهمزة - بمعنى: أظْهرها، أيْ: إنها من تيقُّن وقُوعِهَا تَكاد تَظْهَرُ، لكن تَنْحَجِبُ إلى الأَجل المعلومِ، والعربُ تقولُ: خَفَيْتُ الشَّيْءَ بمعنى: أَظْهَرْتُهُ.

وقرأ الجمْهورُ: «أُخْفِيهَا» - بضم الهمزة - فقيل: معناه: أظهرها، وزعموا: أَنَّ «أَخْفَيْتُ» من الأَضْدَادِ.

وقالت فرقةٌ: { أَكَادُ } بمعنى أُرِيدُ، أيْ: أرِيدُ إخْفَاءَها عنكم؛ لتجزى كل نفس بما تسعى، واسْتَشْهَدُوا بقول الشاعر: [الكامل]

كَادَتْ وَكِدْتَ وَتِلْكَ خَيْرُ إرَادَةٍ.................

وقالت فرقةٌ: أَكاد: على بَابها بمعنى: بأَنها مقاربة ما لم يَقَعْ لكن الكلام جَارٍ على ٱستعارةِ العَرَبِ، ومَجَازِهَا، فلما كانت الآيةُ عبارةٌ عن شِدَّةِ خَفَاءِ أَمْرِ القيامة ووقْتِها، وكان القَطْعُ بإتْيَانِها مع جَهْلِ الوَقْتِ أَهْيَبُ على النفوسِ؛ بالغ ـــ سُبْحَانَه ـــ في إبْهَامِ وقْتِها، فقال: { أَكَادُ أُخْفِيهَا }؛ حتَّى لاَ تظهرُ ألْبتةَ، ولكن ذلك لا يقعُ، ولا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهَا، وهذا التَّأْوِيلُ هو الأَقْوىٰ عندي.

وقوله سبحانه: { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا }: أيْ: عن الإيمانِ بالسَّاعَةِ، ويحتمل عودُ الضمير على الصَّلاَةِ.

وقوله: { فَتَرْدَىٰ }: معناه فتَهْلك، والرَّدَىٰ: الهلاكُ، وهذا الخطابُ كلَّه لموسى عليه السلام، وكذلك ما بعده.

وقال النقاشُ: الخطابُ بـــ { لاَ يَصُدَّنَّكَ }: لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا بَعِيدٌ.

وقوله سبحانه: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَـٰمُوسَىٰ } تقريرٌ مضمنه التَّنْبِيهُ، وجمعُ النفْسِ؛ لتلقى ما يورد عليها، وإلاَّ فقد علم سُبْحَانه مَا هِيَ في الأزَل.

قال ابنُ العَرَبِيُّ في «أحكامه»: وأجابَ مُوسَى عليه السلام بقوله: { هِيَ عَصَايَ... } الآية, بأَكْثَرَ مما وقَعَ السؤالُ عنه؛ وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "هو الطَّهُورُ مَاؤهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ" لمن سَأَلهُ عن طَهُوريَّةِ ماء البَحْر. انتهى.

* ت *: والمُسْتَحْسَنُ من الجواب: أَنْ يكون مُطَابِقاً للسؤال، أو أَعَمَّ منه؛ كما في الآية، والحديث، أَمَّا كونُه أَخَصَّ منه، فَلاَ. انتهى.

{ وأَهُشَّ }: معناه: أخْبِطُ بِها الشَّجَر؛ حتَّىٰ ينتثر الوَرَقُ لِلْغَنم، وعَصَا مُوسَى عليه السلام هي الَّتي كان أَخَذَها من بَيْتِ عِصِيِّ الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام الَّذِي كان عند شُعَيْب عليه السلام حين اتَّفَقَا عَلَى الرَّعْيِ، وكانت عَصَا آدم عليه السلام، هبط بها من الجَنَّةِ، وكانت من العير الَّذِي في وَرَقِ الرَّيْحَانِ، وهو الجِسْم المُسْتَطيل في وسطها، ولما أَراد اللّهُ سبحانه تَدْرِيب مُوسَىٰ في تلقي النبوءة، وتَكَالِيفها، أمره بإلْقَاءِ العَصَا، فألْقَاهَا، فإذا هي حَيَّةً تَسْعَى، أيْ تَنْتَقِلُ، وتَمْشِي، وكانت عَصاً ذَاتَ شُعْبَتَيْنِ، فصارت الشُّعْبَتَانِ فماً يلتقِمُ الحِجَارَةَ، فلما رآها مُوسَى رَأَىٰ عِبْرةً؛ فولَّى مُدْبِراً ولم يُعَقِّبْ؛ فقال اللّهُ تعالى له: { خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ } فأَخذَها بيده، فصارت عَصاً كما كانت أَوَّل مرةٍ؛ وهي سِيرَتُها الأُولَى، { وٱضْمُمْ يَدَكَ إلَىٰ جَنَاحِكَ }، أَيْ: جَنْبِك.

قال * ع *: وكُلُّ مَرْعُوبٍ من ظُلْمَةٍ ونحوها فإنه إذا ضَمَّ يده إلَى جناحه، فَتَر رُعْبُهُ، وربط جَأْشه، فجمع اللّه سبحانه لموسى عليه السلام تَفتِير الرُّعْبِ مع الآيةِ في اليَدِ.

ورُوِي أَنَّ يدَ مُوسَى خرجت بَيْضَاءَ تَشفّ وتُضِيء؛ كأَنَّها شَمْسٌ من غيرِ سُوءٍ، أَيْ: من غير بَرَصٍ، ولا مثلة، بل هو أمْر ينحسر، ويَعُود بحكم الحَاجَةِ إليه، ولما أَمَرُه اللَّه تعالى بالذَّهَابِ إلَى فِرْعَون، علم أنها الرسالة، وفهم قدر التَّكْلِيف؛ فدعا اللَّهَ في المَعُونة؛ إذْ لاَ حَوْلَ له إلاَّ به.

و { ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } معناه: لفهم ما يرد عَلَيّ مِنَ الأُمور، والعُقْدة التي دَعَا في حَلِّها هي التي ٱعترتْهُ بالجَمْرةِ في فِيهِ، حين جَرَّبه فرعون، وروي في ذلك: أَنَّ فِرْعون أراد قَتْلَ مُوسَى، وهو طِفْل حينَ مَدَّ يَدَهُ عليه السلام إلَى لِحْيَةِ فرعون، فقالت له ٱمرأَتُه: إنه لا يَعْقِلُ، فقال: بل هو يَعْقِلُ، وهو عَدُوِّي، فقالت له: نجرِّبُه، فقال لها: أَفْعَلُ، فدَعا بجمَراتٍ من النَّارِ، وبطبقٍ فيه يَاقُوتٌ، فقالا: إنْ أَخذ الياقُوتَ، علِمْنَا أنه يعقِلُ، وإنْ أخذ النارَ، عَذَرْنَاهُ، فمدَّ مُوسَى يده إلى جمرة فأَخذها، فلم تعد على يده، فجعلها فِي فِيهِ، فأَحْرَقَتْهُ، وأوْرثت لِسَانَهُ عُقْدَةٌ، وموسى عليه السلام إنما طلب مِنْ حَلِّ العُقْدَة قدراً يُفْقَهُ معه قولُه، فجائز أَنْ تكون تِلْكَ العقدةُ قد زَالَتْ كُلُّها، وجائِزٌ أَن يكون قَدْ بَقِيَ منها القَلِيلُ، فيجتمع أن يؤتى هو سُؤْلَهُ، وأنْ يقولَ فِرْعَون: { { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } [الزخرف:52].

ولو فرضنا زوالَ العُقْدة جملة، لكانَ قولُ فِرْعَون سَبّاً لمُوسَى بحالته القَدِيمةَ.

وَالوَزِير: المُعِين القَائِمُ بوزر الأُمورِ, وهو ثِقَلها فيحتمل الكَلاَمُ أَنَّ طلبَ الوَزِير من أَهْلِهِ على الجملة ثم أَبْدَل هَـٰرونَ من الوزير المَطْلُوب، ويحتمل أنْ يريدَ: وٱجْعل هَـٰرُونَ وَزِيراً، فيكون مفعولاً أَوّلاً لـ { ٱجْعل }، وكان هَـٰرُونَ عليه السلام أكْبر من موسَىٰ عليه السلام بأرْبع سنين، والأَزْرُ: الظهرُ؛ قاله أَبُو عُبَيْدةَ.

وقوله: { كَثِيراً } نعتٌ لمصدرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: تسبيحاً كثيراً.