وقوله سبحانه: { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ * إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ } قيل: هو وَحْي إلهام، وقِيلَ: بملك، وقِيلَ: برؤْيَا رَأَتْهَا، وكان مِنْ قصة موسى عليه السلام فيما رُوي أن فرعون ذُكرَ له أَنَّ خرابَ مُلْكِه يكونُ عَلَى يد غُلاَمٍ من بَنِي إسرائيل؛ فأَمر بِقَتْلِ كُلِّ مَوْلُودٍ يولَدُ لبني إسرائيل، ثم إنه رَأَى مع أَهْل مملكته: أَنَّ فناء بني إسرائيل يعودُ على القِبْطِ بالضَرَرِ؛ إذْ هم كانوا عَمَلَةَ الأَرْضِ، والصناع، ونحو هذا؛ فعزم على أَنْ يقتُلَ الوِلْدَانَ سنةً، ويَسْتَحْيِيَهُم سنةً، فولد هَـٰرونُ عليه السلام في سَنَةِ الاِسْتِحْيَاءِ، ثم ولد مُوسَىٰ عليه السلام في العام الرابع سَنَةَ القَتْلِ، فخافت عليه أُمُّه؛ فأَوْحَىٰ اللَّه إلَيْها: { أنْ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ } فأخذَت تابُوتاً فقذفَتْ فيه مُوسَىٰ راقِداً في فِرَاشٍ، ثم قذفتْهُ في يَمِّ النيل، وكان فرعون جَالِساً في مَوْضِع يُشْرِفُ منه على النِّيلِ إذْ رَأَى التَّابُوتَ فأمَر به، فسِيقَ إليه، وٱمرأته معه، ففُتِحَ فرأَوْهُ فَرَحِمتْهُ ٱمرأَتُه؛ وطلبتْهُ لتتَّخذَهُ ٱبناً، فأباح لها ذلك، ثم إنَّها عرضَتْهُ للرِّضَاعِ، فلم يقبلِ ٱمرأَةٌ فجعلت تنادي عليه في المدينة, ويُطافُ به يُعْرَضُ للمَرَاضِعِ, فكلما عُرِضَتْ عليه امرأةٌ أَباهَا، وكانت أمه قالَتْ لأُخْتِه:
{ { قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ } } [القصص:11] وفهمت أمره، فقالت لهم: أنا أدلُّكم على أهْل بيت يَكْفلُونه لَكُمْ، وهم له نَاصِحُون، فتعلَّقُوا بِهَا، وقالوا: أنْتِ تَعْرِفينَ هذا الصبيَّ، فأنْكَرتْ، وقَالَتْ: لاَ، غَيْرَ أَني أَعْلم مِنْ أهْل هذا البيْتِ الحِرْصَ على التقرُّبِ إلى المملكةِ، والجدّ في خِدْمتها، ورِضَاهَا، فتَرَكُوها وسَأَلُوها الدَّلاَلة، فجاءت بِأُمِّ مُوسَى، فلما قَرَّبَتْهُ، شَرِبَ ثَدْيَهَا، فسُرّت بذلك آسِيَةُ ٱمرأةُ فِرْعون رضي اللَّه عنها وقالت لها: كُونِي مَعِي في القَصْرِ، فقالت لها: ما كُنْتُ لأَدَعَ بيتي وَوَلَدِي، ولكنه يِكُون عِنْدِي، فقالت: نعم، فأَحسنت إلى أَهْل ذلك البيت غَايَةَ الإحْسَانِ، واعتزَّ بنو إسْرَائِيل بهذا الرِّضاعِ، والسبب من المَمْلَكَةِ, وأقام موسى عليه السلام حتى كَمَلَ رضاعُه، فأرْسَلت إليها آسية: أنْ جِيئِني بولدي لِيَوْمِ كذا، وأمَرتْ خَدَمَها، ومَنْ مَعَها أنْ يلقينه بالتحَفِ، والهَدَايا، واللّباس؛ فوصل إليها علىٰ ذلك، وهو بخيرِ حَالٍ وأجْمَل ثياب، فسُرّت بِهِ، ودخَلتْ به عَلَى فِرْعَوْن؟ ليراه وَيَهَبَ لَهُ فرآه وأعْجَبه، وقرَّبَهُ فأخذ موسى عليه السلام بلِحْيَةِ فرعون، وجَبَذَهَا، فاسْتَشَاطَ فرعونُ، وقال: هذا عَدُوٌّ لي، وأمَر بذبْحِهِ، فَنَاشَدَتْهُ فيه ٱمرَأَتُه، وقالَتْ: إنه لاَ يَعْقِلُ، فقال فِرْعَونُ: بل يَعْقِلُ، فاتَّفَقَا عَلَى تَجْرِيبه بالجمْرَةِ والياقُوتِ؛ حَسَبَ ما تقدَّمَ، فنجاه اللَّهُ من فرعون ورَجَعَ إلى أُمِّه، فَشَبَّ عندها، فَٱعْتَزَّ به بنو إسْرَائِيل إلى أن تَرَعْرَعَ، وكان فَتًى جَلداً فَاضِلاً كَامِلاً، فاعتزت به بنو إسرائيل بظاهر ذلك الرِّضاع، وكان يحميهم، ويكون ضِلعَهُ مَعهم، وهو يَعْلَمُ مِنْ نفسه أنه مِنْهُم، ومِنْ صَمِيمِهم، فكانت بصيرته في حمايتهم أكِيدة، وكان يَعْرِفُ ذلك أَعيانُ بني إسْرَائِيل، ثم وقعت له قِصَّةُ القِبْطِيِّ المتقاتل مع الإسرائيلي على ما سيأتي إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالى، وعدد اللَه سبحانه عَلَىٰ موسى في هذه الآية ما تضمنته هذه القِصَّة: مِنْ لُطْفه سُبْحَانه به في كُلِّ فَصْل، وتخليصه من قِصَّةٍ إلَى أُخْرَىٰ، وهذه الفُتُون التي فتنه بها، أيْ: اختبره بها، وخلَّصَهُ حتى صلح لِلنّبوّةِ، وسلم لها. وقوله { مَا يُوحَىٰ } إبهامٌ يتضمن عِظَمَ الأَمْر وَجَلالَتِه وهذا كَقَوْلِهِ تعالى:
{ { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ } [النجم:16] { { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ } [النجم:10]. وهو كثيرٌ في القرآن، والكلام الفصيح. وقوله: { فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ } خبرٌ خرج في صِيغَةِ الأَمر مُبالغةً؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
"قُومُوا فَلأُصَلِّ لَكُمْ" فأخرج الخبر في صِيغَة الأمْرِ لنفسه، مُبَالغةً، وهذا كَثِيرٌ، والمرادُ بالعدُوِّ في الآية: فرعونُ ثم أخبر تعالى مُوسَى عليه السلام أَنه ألْقى عليه مَحَبَّةً منه. قالت فِرقةٌ: أَرَادَ القَبُولَ الذي يضعه اللَّهُ في الأرضِ لِخَيارِ عِبَادِه، وكان حَظُّ مُوسَىٰ منه في غاية الوَفْرِ؛ وهذا أقْوَىٰ ما قِيلَ هنا مِنَ الأقوال.
وقرأَ الجُمْهورُ: «ولِتُصْنَعَ» بكسر اللام، وضم التاء؛ على مَعْنَىٰ: ولِتُغْذى، وتُطْعم، وتربى.
وقوله: { عَلَىٰ عَيْنِي } معناه: بمرأَىٰ مِنِّي.
وقوله: { عَلَىٰ قَدَرٍ } أيْ: لميقاتٍ محدُودٍ للنبوَّءة التي قد أرادها اللَّهُ تعالى، { وَٱصْطَنَعْتُكَ }: معناه جعلْتُك مَوْضِعَ الصَّنِيعة ومقر الإجْمال والإحْسَان.
وقوله: { لِنَفْسِي } إضَافة تَشْرِيف؛ وهذا كما تقولُ: بيتُ اللَّهِ، ونحوه: «والصِّيَامُ لِي» وعبَّر بالنَّفْسِ عن شِدَّة القرب وقوة الاخْتِصَاص.
وقوله تعالى { وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي } معناه: لا تُبْطِئَا وتضعفا؛ تقولُ: وَنَى فلانٌ في كذا، إذا تَبَاطَأَ فيه عن ضَعْفٍ، والوَنْيُ: الكَلاَلُ، والفَشَلُ في البَهَائِم والإنْسِ.
وفي مُصْحَفِ ابن مَسْعُودٍ: «ولاَ تَهِنَا فِي ذِكْرَي» معناه: لاَ تَلِينَا؛ مِنْ قَوْلِك: هَيِّنٌ لَيِّنٌ. { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً } أيْ: حَسِّنا لَهُ الكلمة مع إكْمَالِ الدَّعْوة.
قال ٱبْنُ العَرَبِي في «أحْكَامِهِ»: وفي الآية دَلِيلٌ على جواز الأَمْر بالمعرُوفِ، والنهي عن المنكر بالليِّن لمن معه القُوَّة، وفي الإسرائيليات: أَنَّ مُوسَى عليه السلام أَقامَ بباب فِرْعَوْن سنةً لا يجد مَنْ يبلغ كَلاَمَهُ حَتَّى لقيه حِينَ خَرَج، فجرى له ما قَصَّ اللَّهُ تعالى عَلَيْنَا من خَبَرِه؛ وكان ذلك تَسْلِيةً لمن جاء بعده مِنَ المؤْمِنِينَ في سِيرَتهم مع الظَّالِمِينَ. انتهى.
وقولهما: { إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ } معناه: يعجل، ويتسرع إلينا بمكروه.
وقوله عز وجل { إنَّنِي مَعَكُمَا } أيْ بالنَّصْر والمعُونَةِ.