التفاسير

< >
عرض

وَنَصَرْنَاهُ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ
٧٧
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي ٱلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ
٧٨
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ
٧٩
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ
٨٠
وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ
٨١
وَمِنَ ٱلشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذٰلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ
٨٢
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ
٨٣
فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ
٨٤
-الأنبياء

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه في نوح عليه السلام: { وَنَصَرْنَـٰهُ مِنَ ٱلْقَوْمِ... } الآية، لما كان جُلُّ نُصْرَتِهِ النجاةَ، وكانت غلبة قومه بأَمر أجنبيٍّ منه ـــ حَسُنَ أنْ يقول: «نصرناه من»، ولا تتمكن هنا «على».

قال * ص *: عُدِّي «نصرناه» بـ «مِنْ»؛ لتضمنه معنى: نجينا، وعصمنا، ومنعنا. وقال أبو عبيدة: «مِنْ» بمعنى «على».

قلت: وهذا أولى، وأَمَّا الأول ففيه نظر؛ لأَنَّ تلك الأَلفاظَ المُقَدِّمَةَ كلها غير مرادفة لـ «نصرنا»، انتهى.

قلت: وكذا يظهر من كلام ابن هشام: ترجيحُ الثاني، وذِكْرُ هؤلاء الأنبياء - عليهم السلام - ضَرْبُ مَثَلٍ لقصة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه، ونجاةُ الأنبياء، وهلاكُ مكذبيهم ضمنها تَوَعُّدٌ لِكُفَّارِ قريش.

وقوله تعالى: { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَـٰنَ } المعنى: واذكر داود وسليمان، هكذا قَدَّرَهُ جماعة من المفسرين، ويُحْتَمَلُ أنْ يكونَ المعنى: وآتينا داود، «والنفش»: هو الرعي ليلاً، ومضى الحكم في الإسلام بتضمين أربابِ النعم ما أفسدت بالليل؛ لأنَّ على أهلها أَنْ يثقفوها، وعلى أهل الزروع حفظها بالنهار، هذا هو مُقْتَضَى الحديث في ناقة ابن عازب، وهو مذهب مالك وجمهور الأُمَّةِ، وفي كتاب ابن سحنون: إن الحديث إنَّما جاء في أمثالِ المدينة التي هي حيطان محدقة، وأمَّا البلاد التي هي زروع متصلة غير محظرة فيضمن أربابُ النَّعَمِ ما أفسدتْ بالليل والنهار.

قال * ص *: والضمير في قوله: { لِحُكْمِهِمْ } يعودُ على الحاكمين والمحكوم له؛ وعليه أبو البقاء.

وقيل: الضمير لداودَ وسليمانَ - عليهما السلام - فقط، وجُمِعَ؛ لأَنَّ الاثنين جمع انتهى.

قال ابن العربيِّ في «أحكامه»: المواشي على قسمين: ضوار، وغير ضوار، وهكذا قَسَّمَهَا مالك، فالضواري: هي المعتادة بأكل الزرع والثمار، فقال مالك: تُغَرَّبُ وتُبَاعُ في بلد لا زرعَ فيه، ورواه ابن القاسم في الكتاب وغيره.

قال ابن حبيب: وإنْ كَرِهَ ذلك أربابُها، وكان قول مالك في الدَّابَّةِ التي ضريت بفساد الزرع أَنْ تُغَرِّبَ وتُبَاعَ، وأَمَّا ما يُسْتَطَاعُ الاحتراز منه فلا يُؤْمَرُ صاحبه بإخراجه عن ملكه، وهذا بَيِّنٌ. انتهى.

وقوله: { يُسَبِّحْنَ }، أي: يقلن: سبحان اللَّه؛ هذا قول الأكثر، وذهبت فرقة منهم منذرُ بن سعيد إلى أنه بمعنى: يُصَلِّينَ معه بصلاته، واللبوس في اللغة: هو السلاح، فمنه الدرع وغيره.

قال * ص *: و { لَبُوس } معناه: مَلْبُوسٌ؛ كالرُّكُوب بمعنى المَرْكُوب؛ قال الشاعر [الطويل].

عَلَيْهَا أَسُودٌ ضَارِيَاتٌ لَبُوسُهُمسَوَابِعُ بِيضٌ لاَ تُخَرِّقُهَا النَّبْلُ

{ وَلِسُلَيْمَـٰنَ ٱلرِّيحَ }، أي: وسخرنا لسليمانَ الريحَ، هذا على قراءة النصب وقرأت فرقة «الريحُ» بالرفع، ويروى أَنَّ الريح العاصفة كانت تهبُّ على سرير سليمانَ الذي فيه بساطه، وقد مد حول البساط بالخشب والألواح حتى صَنَعَ سريراً يَحْمِلُ جميع عسكره وأقواته، فتقله من الأرض في الهواء، ثم تتولاه الريح الرُّخَاءُ بعد ذلك فتحمله إلى حيث أراد سليمان.

قال * ص *: والعَصْفُ: الشِّدَّةُ، والرُّخَاءُ: اللين. انتهى.

وقوله تعالى: { إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَـٰرَكْنَا فِيهَا } اخْتُلِفَ فيها، فقالت فرقة: هي الشام، وكانت مسكنَه وموضعَ ملكه، وقد قال بعضهم: إنَّ العاصفة هي في القفول على عادة البشر والدَّوابِّ في الإسراع إلى الوطن، وإنَّ الرُّخَاء كانت في البدأة حيث أصاب، أي: حيث يقصد؛ لأَنَّ ذلك وقت تأنٍ وتدبير وتقلُّبِ رأي، ويحتمل: أنْ يريد الأَرض التي يسير إليها سليمان كائنةً ما كانت، وذلك أَنَّهُ لم يكن يسير إلى أَرض إلاَّ أصلحها اللَّه تعالى به صلى الله عليه وسلم، ولا بركةَ أَعظَمُ من هذا، والغوصُ: الدخول في الماء والأرض، والعمل دون ذلك البنيان وغيره من الصنائع والخدمة ونحوها، { وَكُنَّا لَهُمْ حَـٰفِظِينَ } قيل: معناه: مِنْ إفسادهم ما صنعوه، وقيل: غير هذا.

قلت: وقوله سبحانه: { وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ } هذا الاسم المُبَارَكُ مناسب لحال أَيُّوبَ عليه السلام، وقد روى أسامة بن زيد (رضي اللَّه عنه) أَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ لِلَّهِ تَعَالَىٰ مَلَكاً مُوَكَّلاً بِمَنْ يَقُولُ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين، فَمَنْ قَالَهَا ثَلاَثاً، قَالَ لَهُ المَلَكُ: إنَّ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ قَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكَ؛ فَاسْأَلْ" رواه الحكام في «المَسْتَدْرَكِ»، وعن أنس بن مالك (رضي اللَّه عنه) قال: "مَرَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: سَلْ؛ فَقَدْ نَظَرَ اللَّهُ إلَيْكَ" رواه الحاكم، انتهى من «السلاح». وفي قصص أيوبَ عليه السلام طُولٌ واختلاف، وتلخيصُ بعض ذلك: أَنَّ أيوبَ عليه السلام أصابه اللَّه تعالى بأكلة في بدنه، فلما عَظُمَتْ، وتقطَّع بدنه، أخرجه الناس من بينهم، ولم يبقَ معه غيرُ زوجته، ويقال: كانت بنتَ يوسفَ الصديق عليه السلام قيل: اسمها رحمة، وقيل في أيوب: إنَّه من بني إسرائيل وقيل: إنه من «الروم» من قرية «عيصو»، فكانت زوجته تسعى عليه، وتأْتيه بما يأكل، وتقوم عليه، ودامَ عليه ضُرُّهُ مدَّة طويلة، وروي أَنَّ أيوب (عليه السلام) لم يزل صابراً شاكراً، لا يدعو في كشف ما به، حتى إنَّ الدودة تسقط منه فيردها، فمرَّ به قوم كانوا يعادونه فسمتوا به؛ فحينئذٍ دعا رَبَّهُ سبحانه فاستجاب له، وكانت امرأته غائبةً عنه في بعض شأنها، فأنبع اللَّه تعالى له عيناً، وأُمِرَ بالشرب منها فبرىء باطنه، وأُمِرَ بالاغتسال فبرىء ظاهره، ورُدَّ إلى أفضل جماله، وأوتي بأحسن ثياب، وهبَّ عليه رجل من جراد من ذهب فجعل يحتفن منه في ثوبه، فناداه ربه سبحانه وتعالى: «يا أيوب ألمْ أكنْ أغنيتك عن هذا؟ فقال: بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك» فبينما هو كذلك إذ جاءت امرأته، فلم تره في الموضع، فجزعت وَظَنَّتْ أَنَّهُ أزيل عنه، فجعلت تتولَّهُ رضي اللَّه عنها، فقال لها: ما شَأْنُكِ أيتها المرأة؟ فهابته؛ لحسن هيئته، وقالت: إنِّي فقدت مريضاً لي في هذا الموضع، ومعالم المكانِ قد تغيرت، وتأملته في أثناءِ المقاولة فرأت أيوبَ، فقالت له: أنت أيوبُ؟ فقال لها: نعم، واعتنقها، وبكى، فَرُوِيَ أنه لم يُفَارِقْهَا حَتَّى أراه اللَّه جميعَ مالِهِ حاضراً بين يديه. واختلف الناس في أهله وولده الذين آتاه اللَّه، فقيل: كان ذلك كله في الدنيا فَرَدَّ اللَّه عليه ولده بأعيانهم، وجعل مثلهم له عدة في الآخرة، وقيل: بل أُوتي جميع ذلك في الدنيا من أهل ومال.

* ت *: وقد قَدَّمَ * ع * في صدر القصة: إن اللَّه سبحانه أَذِنَ لإبليسَ (لعنه اللَّه) في إهلاك مال أيوبَ، وفي إهلاك بنيه وقرابته، ففعل ذلك أجمع، واللَّه أعلم بصحة ذلك، ولو صَحَّ لوجب تأويله.

وقوله سبحانه: { وَذِكْرَىٰ لِلْعَـٰبِدِينَ }، أي: وتذكرة وموعظة للمؤمنين، ولا يعبد اللَّه إلاَّ مؤمن.