التفاسير

< >
عرض

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
١١٠
لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ
١١١
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
١١٢
-آل عمران

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ... } الآية: اختلفَ في تأويل هذه الآية.

فقيل: نزلَتْ في الصحابة، وقال الحسَنُ بْنُ أبي الحَسَن وجماعةٌ مِنْ أَهْل العلْمِ: الآيةُ خطَابٌ لجميع الأمة؛ بأنهم خير أمة أخرجَتْ للنَّاس؛ ويؤيِّد هذا التأويلَ كونُهم شهداءَ عَلَى النَّاس. وأمَّا قوله: «كُنْتُمْ»؛ على صيغة المُضِيِّ؛ فإنها التي بمعنَى الدَّوامِ؛ كما قال تعالى: { { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [الأحزاب:73] وقال قوم: المعنَىٰ: كنتم فِي عِلْمِ اللَّه، وهذه الخَيْريَّة التي خَصَّ اللَّه بها هذه الأمَّة، إنما يأخذ بحَظِّه منها مَنْ عمل بهذه الشُّروط مِنَ الأمر بالمعروفِ، والنَّهْيِ عن المنكر، والإيمانِ باللَّه؛ ممَّا جاء في فَضْل هذه الأمَّة ما خرَّجه مُسْلِمٌ في صحيحه، عن أبي هريرة، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ يَوْمَ القِيَامةِ" وفي رواية: "السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّة" ، وفي رواية: "نَحْنُ الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، والأَوَّلُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، المَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الخَلاَئِقِ" ، وفي رواية: "المَقْضِيُّ بَيْنَهُمْ" . اهـــ.

وخرَّج ابن مَاجَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَحْنُ آخرُ الأُمَمِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبَ، يُقَالُ: أَيْنَ الأَمَّةُ الأَمِّيَّةُ ونَبِيُّها، فَنَحْنُ الآخرُونَ الأَوَّلُونَ" ، وفي روايةٍ عن ابن عَبَّاس: "فتُفَرِّجُ لَنَا الأَمَمُ عَنْ طَرِيقَنَا، فَنَمْضِي غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الطُّهُورِ، فَتَقُولُ الأُمَمُ: كَادَتْ هَذِهِ الأَمَّةُ أَنْ تَكُونَ أَنْبِيَاءَ كُلُّهَا" ، وخَرَّجهُ أيضاً أبو داود الطَّيَالِسِيُّ في مسنده بمعناه. اهـــ من «التذكرة».

وروى أبو داود في سننه، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ أبي شَيْبة، عن أبيه، عن أبي مُوسَىٰ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ؛ لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الآخِرَةِ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا؛ الفِتَنُ، وَالزَّلاَزِلُ، وَالقَتْل" اهـــ، وقد ذكرنا هذا الحديثَ أيضاً عن غَيْر أبي داود، وهذا الحديثُ ليس هو علَىٰ عمومه في جميعِ الأمَّة؛ لثبوت نُفُوذِ الوعيدِ في طائفةٍ من العُصَاة. اهـــ.

وقوله: { تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ }، وما بعده: أحوالٌ في موضعِ نصبٍ.

وفي الحديثِ: "خَيْرُ النَّاسِ أتُقَاهُمْ لِلَّهِ، وَآمَرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ، وَأَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ، وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ" ، رواه البغويُّ في «منتخبه». اهـــ من «الكوكب الدري».

وقوله سبحانه: { مّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ }: تنبيهٌ علَىٰ حال عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ وأخيهِ، وثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ، وغيْرِهِمْ مِمَّنْ آمَنَ.

وقوله تعالى: { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى }، أي: إلا أَذًى بالألسنة فَقَطْ، وأخبر سبحانه في قوله: { وَإِن يُقَـٰتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلأَدُبَارَ }، بخبر غَيْب، صحَّحه الوجودُ، فهي مِنْ آيات نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وفائدةُ الخَبَرِ هي في قولِهِ: { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ }، أي: لا تكونُ حَرْبُ اليهودِ معكم سِجَالاً، وخص الأدبار بالذِّكْر دون الظَّهْرِ، تَخْسِيساً للفَارِّ، وهكذا هو حيثُ تصرَّفَ.

وقوله تعالى: { ضُرِبَتْ }: معناه: أُثْبِتَتْ بشدَّةٍ وإلزامٍ، وهذا وصْفُ حالٍ تقرَّرت على اليهودِ في أقطار الأرْضِ قبل مَجِيء الإسلام، وثُقِفُوا: معناه أُخِذُوا بحالِ المذْنِبِ المستحِقِّ الإهلاك، وقوله: { إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ ٱللَّهِ } في الكلامِ محذوفٌ يدركُهُ فهُمْ السامعِ، تقديره: فلا نجاة لهم مِنَ القَتْلِ أو الاستئصالِ إلاَّ بحَبْلٍ، وهو العَهْدُ.

وقوله: { ذٰلِكَ } إشارةٌ إلى الغَضَب، وضَرْب الذلَّة والمَسْكَنَة، وباقي الآية تقدَّم تفسير نظيره.