التفاسير

< >
عرض

وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
١٦١
أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَ ٱللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٦٢
هُمْ دَرَجَـٰتٌ عِندَ ٱللَّهِ وٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
١٦٣
-آل عمران

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ }، قرأ ابنُ كَثِيرٍ، وأبو عَمْرٍو، وعاصم: «أَنْ يَغُلَّ»؛ بفتح الياء، وضم الغين، وقرأ باقي السبعة: «أَنْ يُغَلَّ»؛ بضم الياء، وفتح الغين، واللفظةُ بمعنى الخِيَانة في خَفَاءِ، تقولُ العربُ: أَغَلَّ الرَّجُلُ يُغِلُّ إغْلاَلاً، إذا خان، واختلفَ عَلَى القراءة الأولَىٰ، فقال ابنُ عَبَّاسٍ وغيره: نزلَتْ بسبب قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ فُقِدَتْ من المغانمِ يَوْمَ بَدْرٍ، فقال بعضُ النَّاس: لعلَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا، فقيلَ: كانت هذه المَقَالَةُ مِنْ مؤمِنٍ لم يَظُنَّ في ذلك حَرَجاً.

وقيل: كانَتْ من منافِقين، وقد رُوِيَ أن المفقود إنما كَانَ سَيْفاً، قال النَّقَّاش: ويقال: إنما نزلَتْ؛ لأن الرماة قالوا يوم أُحُدٍ: الغنيمةَ الغنيمةَ، فإنا نخشَىٰ أنْ يَقُولَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَخَذ شيئاً، فهو له، وقال ابْنُ إسحاق: الآية إنما أنزلَتْ، إعلاماً بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكتم شيئاً مما أُمِرَ بتبليغه.

وأمَّا على القراءة الثانيةِ، فمعناها عند الجمهور، أي: ليس لأحدٍ أنْ يغل النبيَّ، أيْ: يخونه في الغنيمة؛ لأنَّ المعاصِيَ تَعْظُمُ بحَضْرته؛ لتعيين توقيره.

قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه»: وهذا القولُ هو الصحيحُ، وذلك أنَّ قوماً غَلُّوا من الغنائمِ، أو هَمُّوا، فأنزل اللَّه تعالَى الآية، فنهاهُمُ اللَّه عن ذلك، رواه الترمذيُّ. انتهى.

وقوله تعالى: { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ... } الآية: وعيدٌ لِمَنْ يغل من الغنيمة، أو في زكاته بالفَضِيحَة يَوْمَ القيامة علَىٰ رءوس الأَشهاد، قال القرطبيُّ في «تذكرته»: قال علماؤنا (رحمهم اللَّه) في قوله تعالَىٰ: { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ }: إنَّ ذلك عَلَى الحقيقةِ؛ كما بيَّنه صلى الله عليه وسلم، أي: يأتي به حاملاً له علَىٰ ظهره ورقبته، معذَّباً بحمله وثِقَلِهِ، ومروَّعاً بصوته، وموبَّخاً بإظهار خيانته. انتهى. وفي الحديثِ عَنْه صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: "أَدُّوا الْخَائِطَ وَالمَخِيطَ؛ فَإنَّ الغُلُولَ عَارٌ ونَارٌ وشَنَارٌ عَلَىٰ أَهْلِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ" رواه مالكٌ في «الموطَّأ»، قال أبو عُمَرَ في «التمهيد»: الشَّنَار: لَفْظَةٌ جامعةٌ لمعنَى العَارِ وَالنَّارِ، ومعناها الشَّيْن، والنَّار؛ يريد أن الغلول شَيْنٌ وعارٌ ومنْقَصَة في الدُّنْيا، وعذابٌ في الآخرة. انتهى، وفي الباب أحاديثُ صحيحةٌ في الغُلُولِ، وفي مَنْعِ الزكاة.

وقوله سبحانه: { أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوٰنَ ٱللَّهِ }، أي: الطاعة الكفيلة بِرضْوَان اللَّه.

قال * ص *: «أَفَمَنْ»: ٱستفهامٌ، معناه: النَّفْيُ، أي: ليس مَنِ ٱتبعَ مَا يَئُولُ به إلَىٰ رِضَا اللَّه تعالَىٰ عَنْه؛ فباء برضَاه، كَمَنْ لم يَتَّبِعْ ذلك؛ فباء بسَخَطه. انتهى.

وقوله سبحانه: { هُمْ دَرَجَـٰتٌ عِندَ ٱللَّهِ } قال ابنُ إسحاق وغيره: المراد بذلك الجَمْعَانِ المذكورانِ؛ أهل الرِّضْوان، وأصحاب السَّخَط، أيْ: لكلِّ صِنْفٍ منهم تَبَايُنٌ في نفسه في منازل الجنة، وفي أطباق النَّار أيضاً، وقال مجاهدٌ والسُّدِّيُّ ما ظاهره: أن المراد بقوله: «هم»، إنما هو لمتبعي الرضْوان، أي: لهم درجاتٌ كريمةٌ عند ربهم، وفي الكلامِ حذفٌ، تقديره: هُمْ ذَوْو دَرَجَاتٍ، والدرجاتُ: المنازلُ بعضها أعلى من بعض في المَسَافة، أو في التكرمة، أو في العذاب، وباقي الآيةِ وعْدٌ ووعيدٌ.