التفاسير

< >
عرض

إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ
٥٩
ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ
٦٠
فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ
٦١
-آل عمران

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ... } الآية: قال ابن عَبَّاس وغيره: سبَبُ نزولها مُحَاجَّة نَصَارَىٰ نَجْرَانَ في أمر عيسَىٰ، وقولُهم: يا محمَّد، هل رأَيْتَ بَشَراً قَطُّ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ، أَوْ سَمِعْتَ بِهِ، ومعنى الآية أنَّ المَثَلَ الذي تتصوَّره النفُوسُ والعقولُ من عيسَىٰ هو كَالمُتَصَوَّرِ من آدَمَ؛ إذ الناسُ مُجْمِعُونَ علَىٰ أنَّ اللَّه تعالَىٰ خَلَقَهُ مِنْ ترابٍ من غير فَحْلٍ، وفي هذه الآية صحَّةُ القياس.

وقوله تعالى: { ثُمَّ قَالَ } ترتيبٌ للأخبار لمحمَّد صلى الله عليه وسلم، المعنى: خَلَقَهُ من تُرَابٍ، ثم كان مِنْ أمره في الأزَلِ أنْ قال له: كُنْ وقْتَ كذا.

وقوله تعالى: { ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكَ }، أي: هذا هو الحقُّ، و { ٱلْمُمْتَرِينَ }: هم الشاكُّونَ، ونُهِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في عبارةٍ ٱقتضَتْ ذَمَّ الممترين؛ وهذا يدلُّ على أنَّ المراد بالاِمتراء غَيْرُهُ ونُهِيَ عن الاِمتراء، مع بُعْده عنه علَىٰ جهة التثْبِيتِ والدَّوام على حاله.

وقوله تعالى: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ }، أي: في عيسَىٰ، ويحتملُ في الحقِّ، والعِلْمُ الذي أشير إلَيْه بالمجيء هو ما تضمَّنته هذه الآياتُ المتقدِّمة.

وقوله: { فَقُلْ تَعَالَوْاْ }: استدعاءٌ للمُبَاهَلَة، و { تَعَالَوْاْ }: تَفَاعَلُوا؛ من العُلُوِّ، وهي كلمةٌ قُصِدَ بها أولاً تحسينُ الأدَب مع المدعوِّ، ثم ٱطردَتْ؛ حتى يقولها الإنسان لعدُوِّه، وللبهيمةِ، و { نَبْتَهِلْ }: معناه: نَلْتَعِن، ويقال: عَلَيْهِمْ بهلة اللَّه، والابتهالُ: الجِدُّ في الدُّعاء بالبهلة، روى محمَّد بنُ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيْرِ وغيره: «إن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لما دَعَا نَصَارَىٰ نَجْرَانَ إلى المباهلة، قالوا: دَعْنَا نَنْظُرْ في أمرنا، ثم نأتِكَ بما نَفْعَلُ، فَذَهَبُوا إلَى العَاقِب، وهو ذُو رَأْيِهِمْ، فَقَالُوا: يَا عَبْدَ المَسِيحِ، مَا تَرَىٰ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النَّصَارَىٰ، وَاللَّهِ، لَقَدْ عَرَفْتُمْ أنَّ محمَّداً النَّبيُّ المُرْسَلُ، ولَقَدْ جَاءَكُمْ بِالفَصْلِ مِنْ خَبَرِ صَاحِبِكُمْ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا لاَعَنَ قَوْمٌ قَطُّ نَبِيًّا، فَبَقِيَ كَبِيرُهُمْ، وَلاَ نَبَتَ صَغِيرُهُمْ، وَأَنَّهُ الاسْتئْصَالُ إنْ فَعَلْتُمْ، فَإنْ أَبَيْتُمْ إلاَّ إلْفَ دِينِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ عيْهِ مِنَ القَوْلِ فِي صَاحِبِكُمْ، فَوَادِعُوا الرَّجُلَ، وَٱنْصَرِفُوا إلَىٰ بِلاَدِكُمْ؛ حَتَّىٰ يُرِيَكُمْ زمن رَأْيه، فَأْتُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا أَبَا القَاسِمِ، قَدْ رَأَيْنَا أَلاَّ نُلاَعِنَكَ، وَأَنْ نَبْقَىٰ عَلَىٰ دِينِنَا، وَصَالَحُوهُ عَلَىٰ أَمْوَالٍ، وَقَالُوا لَهُ: ٱبْعَثْ مَعَنَا رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِكَ تَرْضَاهُ لَنَا، يَحْكُم بَيْنَنَا فِي أَشْيَاء قَدِ ٱخْتَلَفْنَا فِيهَا مِنْ أَمْوَالِنَا؛ فَإنَّكُمْ عِنْدَنَا رِضًى».

قال * ع *: وفي ترك النصارَى الملاعَنَةَ لعلمهم بنبوَّة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم شاهدٌ عظيمٌ علَىٰ صحَّة نبوَّته صلى الله عليه وسلم عندهم، ودعاءُ النِّساء والأبناء أهَزُّ للنفوسِ، وأدْعَىٰ لرحمة اللَّه للمُحِقِّين، أو لغضبه على المُبْطِلِينَ.