التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً
٢٨
وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً
٢٩
يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً
٣٠
وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً
٣١
يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
٣٢
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً
٣٣
وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْـمَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً
٣٤
-الأحزاب

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا... } الآية، ذَكَرَ جُلُّ المفسرين أن أزواج النَّبِي صلى الله عليه وسلم سَأَلْنَه شَيْئاً من عَرَضِ الدنيا، وآذَيْنَه بزيادة النَفَقَة والغَيْرَة، فَهَجَرَهُنَّ وآلى أَلاَّ يقربَهن شَهْراً، فنزلت هذه الآية، فبدأَ بعائشة، وقال: "يا عَائشَةُ، إنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً وَلاَ عَلَيْكِ أَلاَّ تَعْجَلِي حَتَّىٰ تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، ثُمَّ تَلاَ عَلَيْهَا الآيةَ، فَقَالَتْ لَهُ: وَفِي أَيِّ هَذَا أُسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإنِّي أُرِيدُ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ ثم قَالَتْ: وَقَدْ علِمَ أَن أَبَوَيَّ لاَ يَأْمُرَانِي بِفُراقِهِ، ثُمَّ تَتَابَع أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَىٰ مِثْلِ قَوْلِ عَائِشَةَ فَٱخْتَرْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ رَضِيَ اللّه عنهن" .

قالتْ فِرْقَةٌ قَوْله: { بِفَـٰحِشةٍ مُّبَيِّنَةٍ } يَعُمُّ جَمِيعَ المَعَاصِي ولزمهنَّ رضي اللّه عنهنَّ بحَسْبِ مَكَانَتُهُنَّ، أَكْثَرَ مِمَّا يَلْزَمَ غيرَهن، فَضُوعِفَ لهنَّ الأجْرُ والعذابُ.

وقوله: { ضِعْفَيْنِ } معناه: يكونُ العذابُ عذابَين، أي: يضاف إلى عذابِ سائِر النَّاس عذابٌ آخرُ مِثْلهُ و { يَقْنُتْ }: معناه: يُطِيعُ ويَخْضَعُ بالعبُوديَّة؛ قاله الشعبي وقتادة والرزقُ الكريمُ: الجنة. ثم خاطَبَهُنَّ اللّهُ سبحانه بأنّهنّ لَسْنَ كأحدٍ مِن نساءِ عَصْرِهنَّ؛ فَمَا بَعْدُ، بَلْ هُنَّ أَفْضَلُ بشرطِ التَّقْوَى، وإنما خصصنا النساء لأَن فيمن تقدم آسية ومريم فتأملْهُ؛ وقد أشار إلى هذا قتادة. ثم نَهَاهُنَّ سبحانه عما كانت الحالُ عليه في نساء العرَب من مكالَمَةِ الرجال برَخيمِ القولِ؛ و{ لاَ تَخْضَعْنَ } معناه: لا تُلِنَّ.

قال ابن زيد: خَضْعُ القَوْل ما يُدْخل في القُلُوبَ العزَل؛ والمرضُ في هذه الآية قال قتادة: هو النفاق.

وقال عكرمة: الفِسْق، والغزل، والقولُ المعروفُ هو الصوابُ الذي لا تنكره الشريعةُ ولا النفوسُ. وقرأ الجمهور: «وقِرْن» ـــ بكسر القَافِ ـــ، وقرأ نافعُ وعاصِمُ: «وقَرْن» ـــ بالفتح ـــ، فأما الأولى فيصح أن تكونَ من الوَقار، ويصحُّ أن تَكُونَ من القَرَارِ، وأما قراءة الفتح فعلى لغة العرب قَرِرْتُ ـــ بِكَسْرِ الرَّاءِ ـــ، أَقِرَ ـــ بفتح القاف في المكان، وهي لغة ذكرها أبو عبيد في «الغريب» المصنف وذكرها الزَّجاجُ وغيره، فأمرَ اللّه تعالى في هذه الآية نسَاءَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بملازَمةِ بيُوتِهن، ونَهاهُنَّ عن التبرجِ؛ والتبرّجُ إظهَارُ الزينَةِ والتَّصَنُّعُ بِهَا، ومنه الروجُ لظهُورها وانكشافِها للعيون، واخْتَلَفَ الناسُ في { ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } فقالَ الشعبي: ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام، وقيل: غيرُ هذا.

قال * ع *: والذي يظهر عندي؛ أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها فَأَمِرْنَ بالنَّقْلَةِ عن سِيرَتِهنَّ فِيها، وهي ما كانَ قَبْل الشَّرْعِ مِن سِيرةِ الكَفَرَةِ، وجَعْلِها أولى بالإضافة إلى حالةِ الإسْلام، وليس المعنى. أن ثُمَّ جاهليةً أخِرَة، و{ ٱلرِّجْسَ } اسم يقعُ على الإثم وعلى العذابِ وعلى النَجَاسَات والنقائِص، فأذْهَبَ اللّه جميعَ ذلك عن أهْل البَيْتِ، قالت أم سلمةَ نزلت هذه الآية في بَيْتي؛ "فدعا رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم عليّا وفاطِمَةَ وحَسَنَا وحُسَيْنا فَدَخَلَ مَعَهم تَحْت كساءِ خيبري، وقال هؤلاءِ أهل بيتي، وقرأ الآية، وقَال اللَّهمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَقُلْتُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ، فَقَالَ: أَنْتِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنْتِ إلَىٰ خَيْرَ" . والجمهورُ على هذا، وقال ابن عباس وغيره: أهل البيتِ: أزواجه خاصة، والجمهور على ما تقدم.

قال * ع *: والذي يظهر لي: أن أهل البيت أزواجه وبنتُه وبنوها وزوجُها أعنى عليّاً، ولفظ الآية: يقتضي أن الزوجات من أهل البيت؛ لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن.

قال * ص *: و { أَهْلَ ٱلْبَيْتِ }: منصوبٌ على النداءِ أو على المدْحِ أو على الاخْتِصَاصِ وَهُوَ قَلِيلٌ في المخاطب، وأكْثَرُ ما يكونُ في المتكلِّم، كقوله [الرجز]

نَحْنُ بَنَاتِ طَارِقْنَمْشِي عَلَى النَّمَارِقْ

انتهى.

واسْتَصْوَبَ ابنُ هشامٍ نصبَه على النداء، قاله في «المغني»: وقوله تعالى: { وَٱذْكُـرْنَ } يُعْطِي أنْ أهْل البيتِ نساؤه، وعلى قول الجمهور: هي ابتداء مخاطبةِ والحكمةُ السّنّةُ، فقولُه: { وَٱذْكُـرْنَ } يحتمل مَقْصِدَيْنِ: كِلاهما مَوْعِظَة أحدُهمَا: أن يريدَ تَذَكَّرْنَه، واقْدِرْنَه قَدْرَه، وفَكِّرْنَ فِي أنّ مَنْ هذِهِ حَالُه يَنْبَغِي أن تَحْسُنَ أَفْعَالُه، والثاني: أن يُرِيْدَ: { ٱذْكُـرْنَ } بمعنى: احْفَظْنَ واقْرَأْنَ وَأَلْزِمْنَهُ أَلسنتَكنَّ.

* ت *: ويحتمل أن يُرَادَ بـ { ٱذْكُـرْنَ } إفشاؤه ونشرُه للناس، واللّه أعلم. وهذا هو الذي فهمُه ابنُ العربيِّ من الآية، فإنَّه قال: أمر اللّه أزواجَ رسولهِ أن يُخْبرن بما ينزل من القرآن في بيوتهن وبما يَرَيْنَ من أفعالِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وأقواله، حتى يبلغَ ذلك إلى الناسِ، فيعملوا بما فيه ويَقْتَدُوا به، انتهى. وهوَ حسن وهو ظاهر الآية وقد تقدم له نحو هذا في قوله تعالى: { وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَـٰفَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً } [النساء:128] الآية.

ذكره في «أحكام القرآن».