التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٢٠
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ
٢١
قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ
٢٢
وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ٱلْحَقَّ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ
٢٣
قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢٤
-سبأ

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ... } الآية، قَرَأَ نَافِعُ وأَبُو عمرِو وٱبْنُ عَامِرٍ: «ولقد صَدَقَ» بِتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ والكسائيِّ: «صَدَّقَ» بِتَشْدِيدِها؛ فالظَّن عَلى هذِهِ القِرَاءَةِ مَفْعُولُ «بَصدَّقَ» ومَعْنَى الآية: أَنَّ إبْلِيسَ ظَنَّ فِيهمْ ظَنّاً حَيْثُ قَالَ: { { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ } [الأعراف:17].

وغَيْرَ ذلك فَصَدَّقَ ظَنَّهُ فِيهمْ؛ وأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ اتَّبَعُوهُ وهُو اتِّبَاعٌ فِي كُفْرٍ لأَنَّهُ فِي قِصَّة قَوْمٍ كُفَّارٍ.

وقولُه: { مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } يَدُلّ عَلى ذَلكَ وَ «مِنْ» فِي قوله: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } لبيَانِ الجِنْسِ لاَ لِلتَّبْعِيضِ.

وَقَوْلهُ: { ومَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَـٰنٍ }. أي: مِنْ حُجَّةٍ، قال الحسنُ: واللّهِ مَا كَانَ لهُ سَيفٌ وَلاَ سَوْطٌ وَلَكِنَّهُ اسْتَمَالَهُمْ فَمَالُوا بِتَزْيِيْنِهِ.

وقولُه تعالى: { قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ } يريدُ: الأصْنَامَ والملائِكَةَ؛ وذَلِكَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الملائِكَةَ؛ وَهَذِهِ آيَةٌ تَعْجِيزٍ وَإقَامَةِ حُجَّةٍ؛ ويُرْوَىٰ أَنَّ الآيةَ نَزَلَتْ عِنْدَ الجُوعِ الَّذِي أَصَابَت قُرَيشاً، ثُمَّ جَاءَ بصِفة هؤلاَءِ الذين يَدْعُونهم آلِهَةً أنَّهُمْ لاَ يَمْلِكُونَ مُلْكَ اخْتِرَاعٍ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ؛ وأنَّهُمْ لاَ شِرْكَ لَهُمْ فِيهِمَا، وهذَانِ نَوْعَا المُلْكِ: إمَّا اسْتِبْدَادٌ وَإمَّا مُشَارَكَةٌ؛ فَنَفَى جَمِيعَ ذَلِكَ وَنَفَى أنْ يَكُونَ مِنْهُم لِلَّهِ تعالى مُعِينٌ فِي شَيْءٌ، و «الظَّهِيرُ»: المُعينُ، ثُمَّ قَرَّرَ فِي الآيةِ بَعْدُ أنَّ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يْشْعَفُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللّهِ؛ لاَ تَصِحُّ مِنْهُمْ شَفَاعَةٌ لَهُمْ إذْ هَؤلاءِ كَفَرَةٌ وَلاَ يأْذَنُ اللّهُ فِي الشَّفَاعَةِ فِي كَافِرٍ، وقَرَأ حَمْزَةُ والكسائي وأبُو عَمْرٍو و«أُذِنَ» ـــ بِضَمِّ الهَمْزَةِ ـــ.

وقوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ... } الآيةَ، الضَّميرُ في { قُلُوبِهِمْ } عَائِدٌ عَلَى الملائِكَةِ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ آلِهَةً.

قال * ع *: وَتَظَاهَرَتْ الأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ هَذِهِ الآية ـــ أَعْنِي قوله: { حَتَّىٰ إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ... } ـــ إنَّما هِي فِي المَلاَئِكَةِ؛ إذَا سَمِعَتِ الوَحْيَ إلَى جِبْرِيلَ، أو الأمْرَ يَأْمُرُ اللّهُ بِهِ سَمِعَتْ كَجَرِّ سِلْسِلَةِ الحَدِيدِ عَلى الصَّفْوَانِ، فَتَفْزَعُ عِنْد ذَلِكَ تَعْظِيماً وَهَيْبَةً لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ وقِيل: خَوْفاً أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ؛ فَإذَا فَرَغَ ذَلِكَ، فُزَّعَ عَنْ قُلُوبِهِم، أي: أُطِيرَ الفَزَعُ عَنْهَا وَكُشِفَ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَلِجِبْرِيلَ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيَقُولُ المَسْؤُولُونَ: قَالَ الْحَقَّ، وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ.

* ت *: وَلَفْظُ الحديثِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "إذَا قَضَى اللّهُ أَمْراً فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَاناً لِقَوْلِهِ: كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَىٰ صَفْوَانٍ، فَإذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا الحَقَّ، وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِير" انتهى.

وَقَرَأَ الجُمْهُورُ «فُزع» ـــ بِضَمِّ الفَاءِ ـــ وَمَعْنَاهُ أُطِيرَ الفَزَعُ عَنْهُمْ وَقَوْلُهُمْ: { وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ } تَمْجِيدٌ وَتَحْمِيدٌ، ثُمَّ أَمَرَ اللّهُ نَبِيَّه صلى الله عليه وسلم عَلَى جِهَةِ الاحْتِجَاجِ وَإقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلى الرَّازِقِ لَهُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ مَنْ هُوَ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقْتَضِبَ الاحْتِجَاجِ بِأَنْ يَأَتِيَ بِجَوَابِ السُّؤَالِ؛ إذْ هُمْ فَي بَهْتَةٍ وَوَجْمَةٍ مِنَ السُّؤالِ؛ وإذ لاَ جَوَابَ لَهُمْ إلاَّ أَنْ يَقُولُوا: هُو اللّهُ، وهذهِ السَّبِيلُ في كلِّ سُؤَالِ جَوَابَهُ فِي غَايةِ الوُضُوحِ؛ لأَنَّ المُحْتَجَّ يُرِيدُ أنْ يَقْتَضِبَ وَيَتَجَاوَزَ إلَى حُجَّةٍ أُخْرَى بُورِدُها، وَنَظَائِرُهَا فِي القُرْآنِ كَثِيرٌ.

وقوله تعالى: { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ } تلطفٌ فِي الدَّعْوَةِ والمُحَاوَرَةِ والمَعْنَى: كَمَا تقولُ لِمَنْ خَالَفَكَ فِي مَسْأَلَةِ أَحَدَنَا مُخْطِىء تَثَبَّتْ وَتَنَبَّهُ؛ وَالمَفْهُومُ مِنْ كَلامِكَ أنّ مُخَالِفَكَ هُو المخطىء فَكَذلكَ هَذَا، مَعْنَاهُ: وَإنا لَعَلَى هَدًى أو فِي ضَلالٍ مبِينٍ؛ وَإنَّكُمْ لَعَلَى هَدًى أوْ فِي ضَلاَلِ مُبِينٍ؛ فَتَنَبَّهُوا، وَالمَقْصِدُ أَنَّ الضَّلاَلَ فِي حَيِّزِهِم؛ وَحَذْفُ أَحَدِ الخَبَرَيْنِ لدَلاَلةِ البَاقِي عَلَيْهِ.