التفاسير

< >
عرض

كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٢٩
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
٣٠
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ
٣١
فَقَالَ إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ
٣٢
رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ
٣٣

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ مُبَـٰرَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءَايَـٰتِهِ } قال الغَزَّالِيُّ في «الإحْيَاءِ»: اعْلَمْ أن القرآن مِنْ أَوَّلِه إلى آخِرِه تحذيرٌ وتخويفٌ لاَ يَتَفَكَّرُ فيه مُتَفَكِّرٌ إلا وَيَطُولُ حُزْنُهُ، وَيَعْظُمُ خَوْفُه إنْ كَانَ مُؤْمِناً بِمَا فِيه وَتَرى النَّاسَ يَهْذُّونَهُ هَذًّا، يُخْرِجُونَ الحُروفَ مِنْ مُخَارِجِها، ويَتَنَاظَرُونَ عَلَىٰ خَفْضِها ورَفْعِها وَنَصْبِها، لاَ يَهُمُّهُمْ الالتِفَاتُ إلى مَعانِيها والعملِ بما فِيها، وَهَلْ في العِلم غُرُورٌ يَزِيدُ عَلَىٰ هذا، انتهى من «كِتَابِ ذَمِّ الغُرُور».

واختلفَ المتأولونَ في قَصَصِ هذهِ الخيل المَعْرُوضَةِ عَلى سُلَيْمَانَ ـــ عَلَيْهِ السلامُ ـــ فقال الجُمْهُورُ: إنَّ سُلَيْمَانَ ـــ عَلَيْهِ السلام ـــ عُرِضَتْ عليه آلافٌ مِنَ الخَيْلِ تَرَكَهَا أَبُوهُ، فأُجْرِيَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ عِشَاءً، فَتَشَاغَلَ بجريها وَمَحَبَّتِهَا، حَتَّىٰ فَاتَهُ وَقْتُ صَلاَةِ العَشِيِّ، فَأَسِفَ لِذَلِكَ؛ وَقَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ الخَيْلَ؛ فَطَفِقَ يَمْسَحُ سُوقَها وأعْنَاقَها بالسَّيْفِ، قَالَ الثَّعْلَبيُّ وغيره، وجَعَل يَنْحَرُهَا تَقَرُّباً إلَىٰ اللَّهِ تعالى؛ حيثُ اشْتَغَل بِهَا عَنْ طَاعَتِهِ، وكان ذلكَ مُبَاحاً لَهُمْ كما أُبِيحَ لَنا بهيمةُ الأنْعَامِ، قال * ع *: فَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تعالَىٰ أَبْدَلَهُ مِنْهَا أَسْرَعَ منها، وهي الرِّيحُ، قال ابن العربيِّ في «أحكامه»: و{ ٱلْخَيْرُ } هنا هي الخيل؛ وكذلكَ قَرأَها ابنُ مَسْعُود: «إنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْلِ» انتهى، و«الصَّافِنُ»: الذي يَرْفَعُ إحْدَىٰ يديه؛ وقَدْ يَفْعَلُ ذلكَ برِجْلِهِ؛ وهي علامةُ الفَرَاهِيَة؛ وأَنْشَدَ الزَّجَّاجُ: [الكامل]

أَلِفَ الصُّفُونَ فَمَا يَزَالُ كَأَنَّهمِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلاَثِ كَسِيرَا

قالَ بَعْضُ العلَماء: { ٱلْخَيْرِ } هنَا أرادَ به الخَيْلَ، والعَرَبُ تُسَمي الخَيْلَ، الخَيْرَ، وفي مِصْحَفِ ابْن مَسْعُودٍ: «حُبَّ الخَيْلِ» باللامِ.

والضميرُ في { تَوَارَتْ } للشمسِ، وإن كَانَ لَمْ يَتَقَدَّم لَهَا ذِكْرٌ: لأنَّ المَعْنَىٰ يَقْتَضِيهَا، وأيضاً فَذِكْرُ العَشِيِّ يَتَضَمَّنُهَا، وقالَ بعضُ المفسرينَ { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ }، أَي: الخيلُ دَخَلَتْ إصْطَبْلاَتِهَا، وقال ابنُ عبَّاسٍ والزُّهْرِيُّ: مَسْحُهُ بالسُّوقِ والأَعْنَاقِ لَمْ يَكُنْ بالسَّيْفِ؛ بل بيدهِ تَكْرِيماً لَها؛ ورَجَّحَهُ الطبريُّ، وفي البخاري: { فَطَفِقَ مَسْحاً } يمسحُ أعْرَافَ الخَيلِ وعَرَاقِيبَهَا؛ انتهى، وعن بعضِ العلماءِ أَنَّ هذهِ القصةَ لَمْ يَكُنْ فيها فَوْتُ صلاةٍ، وقالوا: عُرِضَ على سليمانَ الخيلُ وهو في الصلاةِ، فأشَارَ إليهم؛ أي: إني في صلاةٍ، فأزَالُوهَا عَنْهُ حتى أَدْخَلُوها في الإصْطَبْلاَتِ، فقالَ هو، لَمَّا فَرَغَ من صلاته: إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخيرِ، أي: الذي عِنْدَ اللَّهِ في الآخِرةِ؛ بسببِ ذِكْرِ ربي، كَأَنه يقول: فَشَغَلَنِي ذلكَ عَنْ رُؤْيَةِ الخيلِ، حتى أُدْخِلَتْ إصْطَبْلاَتِهَا، رُدُّوهَا عَليّ، فَطَفِقَ يَمْسَحُ أعْرَافَهَا وسُوقَهَا، تَكْرمةً لها، أي: لأَنَّها معدَّةٌ للجهَادِ، وهذا هو الراجحُ عند الفخر، قال: ولو كانَ مَعْنَىٰ مَسْحِ السُّوقِ والأعناقِ قَطْعَهَا لَكَانَ مَعْنَىٰ قوله: { وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } [المائدة:6] قطعَهَا * ت *: وهَذَا لا يلزمُ للقرينَةِ في الموضعين، اهـــ. قال أبو حَيَّان: و{ حُبَّ ٱلْخَيْرِ } قال الفراء: مفعولٌ بهِ، { أَحْبَبْتُ } مُضَمَّنٌ مَعْنَىٰ آثَرْتُ، وقيلَ: منصوبٌ على المصدرِ التَّشْبِيهِي، أي: حبًّا مِثْلَ حُبِّ الخير، انتهى.

وقوله: { عَن ذِكْرِ رَبِّى } «عن» عَلَىٰ كُلِّ تَأويلٍ هنا للمُجَاوَزَةِ من شيءٍ إلى شَيْءٍ، وَتَدَبَّرْهُ فإنه مُطَّرِدٌ.