التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ
٨
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٩
-الزمر

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَـٰنَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ... } الآية: { ٱلإِنسَـٰنَ } هنا: الكافرُ، وهذه الآيةُ بَيَّنَ تعالَىٰ بها عَلَى الكُفَّارِ، أنَّهُمْ عَلَىٰ كُلِّ حَالٍ يَلْجَئونَ إليه في حالِ الضروراتِ، و{ خَوَّلَهُ } معناه مَلكه وحكَّمَه فيها ابتداءً من اللَّهِ لاَ مُجَازَاةً، ولا يقالُ في الجزاء «خَوَّلَ».

وقوله تعالى: { نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ } قالت فرقة: «ما» مصدريةٌ، والمعنى: نسِيَ دعاءَه إليه في حالِ الضَّرُورَةِ، وَرَجَعَ إلَىٰ كُفْرِهِ، وقالت فرقة «ما» بمعْنَى: الذي، والمرادُ بها اللَّه تعالى، أي: نسي اللَّه، وعبارة الثعلبي: قوله: { نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ } أي: تَرَكَ عبادَة اللَّه تعالى والتضرُّعَ إليهِ من قَبْلُ في حال الضُّرِّ انتهى» وباقي الآية بيِّنٌ.

وقوله تعالى: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } بتخفيف الميمِ، هي قراءة نافعٍ وابنِ كَثِيرٍ وحمزة، والهَمْزةُ للتقرير والاستفهام، وكأنه يقولُ: أهذا القانتُ خَيْرٌ أم هذا المذكورُ الذي يتمتَّعُ بكُفْرِهِ قليلاً، وهو من أَصْحَاب النار، وقرأ الباقونَ: «أَمَّنْ» بتشديدِ الميمِ، والمعنى: أهذا الكافرُ خَيْرٌ أمَّنْ هُو قَانِتٌ؟ والقانتُ: المطِيعُ؛ وبهذا فسَّره ابنُ عبَّاس ـــ رضي اللَّه عنهما ـــ، والقُنُوتُ في الكلام يَقَع عَلى القِراءةِ وَعَلى طُولِ القيامِ في الصلاةِ؛ وبهذا فسَّره ابنُ عُمَرَ ـــ رَضِي اللَّه عنهما ـــ قال الفَخْرُ: قيل: إن المرادَ بقوله: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَاءَ ٱلَّيْلِ }: عُثْمَانُ بْنُ عفَّانَ؛ لأنَّه كَان يُحْيِي الليل، والصحيحُ أنها عامَّةٌ في كلِ من اتَّصَفَ بهذه الصِّفَةِ، وفي هذه الآية تنبيهٌ على فضلِ قيامِ الليلِ، انتهى، ورُوِيَ عن ابن عَبَّاسٍ؛ أَنَّه قالَ: «مَنْ أحَبَّ أَنْ يُهَوِّنَ اللَّهُ عليه الوقوفَ يوم القيامةِ، فَلْيَرَهُ اللَّهُ في سَوَادِ اللَّيْلِ سَاجِداً وقائِماً»، * ت * قال الشيخ عبدُ الحَقِّ في «العَاقِبَةِ»: وعن قَبِيصَةَ بْنِ سُفْيَانَ قال: رأيتُ سُفْيانَ الثَّوْرِيَّ في المنام بعد موته؛ فقلتُ له: ما فعل اللَّه بك؟ فقال: [الطويل]

نَظَرْتُ إلَىٰ رَبِّي عِيَاناً فَقَالَ لِيهَنِيئاً رِضَائي عَنْكَ يَا بْنَ سَعِيدِ
لَقَدْ كُنْتَ قَوَّاماً إذَا اللَّيْلُ قَدْ دَجَابِعَبْرَةِ مَحْزُونٍ وَقَلْبِ عَمِيدِ
فَدُونَكَ فَٱخْتَرْ أَيَّ قَصْرٍ تُرِيدُهوَزُرْنِي فَإنِّي مِنْكَ غَيْرُ بَعِيدِ

وكَانَ شُعْبَة بن الحَجَّاج، ومِسْعَرُ بْن كِدَامٍ، رجلَيْنِ فَاضِلَيْنِ، وكانَا مِنْ ثِقَاتِ المُحَدِّثينَ وحُفَّاظِهِم، وكان شُعْبَةُ أَكْبَرَ فَمَاتَا، قال أبو أحمد اليَزِيدِيُّ، فرَأَيتُهما في النَّوْمِ، وكنتُ إلَىٰ شُعْبَةَ أَمْيَلَ مِنِّي إلَىٰ مِسْعَرٍ، فقلتُ: يا أبا بِسْطَامَ؛ ما فَعَلَ اللَّهُ بك؟ فقال: وَفَّقَكَ اللَّه يا بُنَيَّ، ٱحْفَظْ ما أقُولُ:

حَبَانِي إلٰهِي فِي الْجِنِانِ بِقُبَّة لَهَا أَلْفُ بَابٍ مِنْ لُجَيْنٍ وَجَوْهَرَا
وَقَالَ لِيَ الْجَبَّارُ: يَا شُعْبَةُ الَّذِيتَبَحَّرَ في جَمْعِ الْعُلُومِ وَأَكْثَرَا
تَمَتَّعْ بِقُرْبِي إنَّنِي عَنْكَ ذُو رِضاًوَعَنْ عَبْدِيَ القَوَّامِ في اللَّيْلِ مِسْعَرَا
كَفَىٰ مِسْعَراً عِزًّا بِأنْ سَيَزُورُنِيوَأَكْشِفُ عَنْ وَجْهِي وَيَدْنُو لِيَنْظُرَا
وَهٰذَا فِعَالِي بِالَّذِينَ تَنَسَّكُواوَلَمْ يَأْلَفُوا في سَالِفِ الدَّهْرِ مُنْكَرَا

انتهى. «والآناء»: الساعاتُ واحدها «إنًى»؛ كَـــ«مِعًى» ويقال: «إِنْيٌ» ـــ بكسر الهمزة وسكون النون ـــ، و«أَنًى» على وزن «قَفاً».

وقوله سبحانه: { يَحْذَرُ ٱلأَخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } قال ابْنُ الجوزيِّ في «المُنْتَخَبِ»: يقولُ اللَّه تعالى: «لاَ أجْمَعُ عَلَىٰ عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَلاَ أَمْنَيْنِ؛ مَنْ خَافَنِي في الدُّنْيَا، أمَّنتُهُ في الآخِرَةِ، وَمَنْ أَمِنَنِي في الدُّنْيَا خَوَّفْتُهُ في الآخِرَةِ»، يَا أَخِي:

امتطَى القَوْمُ مَطَايَا الدُّجَىٰ عَلَىٰ مَرْكَبِ السَّهَرِ، فَمَا حَلُّوا وَلاَ حَلُّوا رِحَالَهُمْ حَتَّى السَّحَرْ،دَرَسُوا القُرآن فَغَرَسُوا بِأَيْدِي الْفِكْرِ أَزْكَى الشَّجَرْ، وَمَالُوا إلى النُّفُوسِ بِاللَّوْمِ؛ فَلاَ تَسْأَلْ عَمَّا شَجَرْ، رَجَعُوا بِنَيْلِ القَبُولِ مِنْ ذَلِكَ السَّفَرْ، وَوَقَفُوا عَلَىٰ كَنْزِ النَّجَاةِ وَمَا عِنْدَكَ خَبَرْ، فإذا جَاء النَّهَارُ قَدَّمُوا طَعَامَ الجُوعِ، وَقَالُوا لِلنَّفْسِ: هَذَا الَّذِي حَضَرْ،حَذَوْا عزَمَاتٍ طَاحَتِ الأَرْضُ بَيْنَهَا، فَصَارَ سُرَاهُمْ في ظُهُورِ العَزَائِمْ،تَرَاهُمْ نُجُومَ اللَّيْلِ مَا يَبْتَغُونَهُ علَىٰ عَاتِقِ الشِّعْرَىٰ وَهَامِ النَّعَائِمْ، مَالَتْ بِالقَوْمِ رِيحُ السَّحَرِ مَيْلَ الشَّجَرِ بِالأَغْصَانْ، وَهَزَّ الخَوْفُ أَفْنَانْ القُلُوبِ فَٱنْتَشَرَتِ الأَفْنَان، فَالقَلْبُ يَخْشَعُ واللِّسَانُ يَضْرَعُ وَالعَيْنُ تَدْمَعُ وَالوَقْتُ بُسْتَانْ،خَلْوَتُهُمْ بِالحَبِيبِ تَشْغَلُهُمْ عَنْ نُعْمٍ وَنَعْمَانْ، سُرُورُهُمْ أَسَاوِرُهُمْ وَالخُشُوعُ تِيجِانْ، خُضُوعُهُمْ حُلاَهُمْ وَمَاءُ دَمْعِهِمْ دُرٌّ وَمَرْجَانْ، بَاعُوا الْحِرْصَ بِالقَنَاعَةِ فَمَا مُلكُ أَنُوشِرْوَان، فَإذَا وَرَدُوا القِيَامَةَ تَلَقَّاهُمْ بَشَرٌ: لَوْلاَكُمْ مَا طَابَ الجِنَانْ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانْ، أَيْنَ أَنْتَ مِنْهُمْ يَا نَائِمُ كَيَقْظَانْ، كَمْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ أَيْنَ الشُّجَاعُ مِنَ الجَبَانْ، مَا لِلْمَوَاعِظِ فِيكَ نُجْحٌ، مَوْضِعُ القَلْبِ بِاللَّهْوِ مِنْكَ مَلآنْ، يَا أَخِي، قِفْ عَلَىٰ بَابِ النَّجَاحِ وَلٰكِنْ وُقُوفَ لُهْفَانْ، وَٱرْكَبْ سُفُنَ الصَّلاَحِ، فَهٰذَا المَوْتُ طُوفَانْ، إخْوَانِي، إنَّمَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مَرَاحِلْ؛ وَمَرْكَبُ العُمْرِ قَدْ قَارَبَ السَّاحِلْ، فَٱنْتَبِهْ لِنَفْسِكَ وَٱزْدَجِرْ يَا غَافِلْ، يَا هَذَا، أَنْتَ مُقِيمٌ فيَّ مُنَاخِ الرَّاحِلِينَ، وَيْحَكَ ٱغْتَنِمْ أَيَّامَ الْقُدْرَةِ قَبْلَ صَيْحَةِ الانْتِزَاعِ، فَما أقْرَب مَا يُنْتَظَرْ، وَمَا أَقَلَّ المُكْثَ فِيمَا يَزُولُ وَيَتَغَيَّرْ. انتهى.