التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً
٢٩
وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً
٣٠
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً
٣١
-النساء

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً... } الآية: الاستثناءُ منقطعٌ، المعنَىٰ: لكنْ إنْ كانَتْ تجارةً، فكُلُوها، وأخْرَجَ البخاريُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إتْلاَفَهَا، أَتْلَفَهُ اللَّه" . انتهى.

وقوله تعالَىٰ: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً }، أجمع المتأوِّلون علَىٰ أنَّ المقصودَ بهذه الآية النهْيُ عن أنْ يقتُلَ بعْضُ الناسِ بَعْضاً، ثم لفظها يتناوَلُ أنْ يقتل الرجُلُ نَفْسَهُ بقَصْدٍ منه للقتل، أو بأنْ يحملها علَىٰ غَرَرٍ، رُبَّمَا ماتَ مِنْهُ، فهذا كلُّه يتناوله النَّهْيُ، وقد ٱحتجَّ عمرو بن العاصي بهذه الآيةِ حين ٱمْتَنَعَ مِنَ الاغتسال بالمَاءِ الباردِ؛ خَوْفاً على نَفْسِهِ منه، فقرَّر رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم احتجاجَهُ.

وقوله تعالى: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوَٰناً وَظُلْماً... } الآية: اختلف في المُشَارِ إلَيْه بـ «ذَلِكَ».

فقال عطاء: «ذَلِكَ» عائدٌ على القَتْل؛ لأنه أقربْ مَذْكُور، وقالتْ فرقةٌ: «ذلك» عائدٌ علَىٰ أَكْلِ المالِ بالباطِلِ، وقَتْلِ النَّفْسِ، وقالَتْ فرقةٌ: «ذَلِكَ»: عائدٌ علَىٰ كُلِّ ما نُهِيَ عَنْه مِنْ أوَّل السورةِ، وقال الطبريُّ: «ذَلِكَ» عائدٌ علَىٰ ما نُهِيَ عنه مِنْ آخر وعيدٍ، وذلك قولُهُ تعالى: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُواْ ٱلنِّسَاءَ كَرْهاً } [النساء:19]؛ لأنَّ كلَّ ما نهي عنه قبله إلى أول السُّورة، قُرِنَ به وعيدٌ.

قال ابنُ العَرَبيِّ في «أحكامه» والقول الأول أصحُّ، وما عداه محتملٌ. انتهى.

والعدوانُ: تَجَاوُزُ الحَدِّ.

قال * ص *: { عُدْوَاناً وظُلْماً }: مصدرانِ في مَوْضِعِ الحال، أي: معتدِّين وظالِمِينَ، أبو البقاء: أو مفعولٌ من أجله. انتهى.

واختلف العلماءُ في الكبائِرِ.

فقال ابنُ عبَّاس وغيره: الكبائرُ: كلُّ ما وَرَدَ علَيْه وعيدٌ بنارٍ، أو عذابٍ، أو لَعْنَةٍ، أو ما أشبه ذلك.

وقال ابن عبَّاس أيضاً: كلُّ ما نَهَى اللَّه عنه، فَهُوَ كَبِيرٌ، وعلَى هذا القول أئمَّة الكلامِ؛ القاضِي، وأبو المَعَالِي، وغَيْرُهما؛ قالوا: وإِنما قيل: صغيرةٌ؛ بالإِضافة إِلَى أكبر منها، وإِلاَّ فهي في نفسها كبيرةٌ؛ منْ حيْثُ المَعْصِيُّ بالجميع واحدٌ، واختلف العلماءُ في هذه المسألة، فجماعةٌ من الفقهاءِ والمحدِّثين يَرَوْنَ أنَّ باجتنابِ الكبَائرِ تُكَفَّر الصغائرُ قطْعاً، وأما الأصوليُّون، فقَالُوا: مَحْمَلُ ذلك علَى غَلَبة الظَّنَّ، وقُوَّةِ الرجاءِ، لا علَى القَطْع، ومَحْمَلُ الكبائرِ عند الأصوليِّين في هذه الآيةِ أجناسُ الكُفْر، والآيةُ التي قَيَّدت الحُكْمَِ، فتردُّ إِلَيْها هذه المُطْلَقات كلُّها: قوله تعالَى: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء: 48 و116].

و { كَرِيماً }: يقتضي كَرَمَ الفضيلةِ، ونَفْيَ العيوب؛ كما تقول: ثَوْبٌ كريمٌ، وهذه آية رجاء، ورَوى أبو حاتم الْبُسْتِيُّ في «المُسْنَدِ الصَّحِيح» له، عن أبي هريرةَ وأَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ؛ "أنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ علَى المِنْبَرِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثم سَكَتَ، فَأَكَبَّ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا يَبْكِي حَزِيناً لِيَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْ عَبْدٍ يُؤَدِّي الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَيَجْتَنِبُ الكَبَائِرَ السَّبْعَ، إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ ثَمانِيَةُ أَبْوَابِ مِنَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ حَتَّى إِنَّها لَتُصَفِّقُ، ثُمَّ تَلاَ: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ... } الآية" . انتهى من "التذكرة" للقرطبيِّ، ونحوُهُ ما رواه مُسْلِمٌ، عن أبي هريرةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةَ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ، إِذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ" ؛ قال القرطبيُّ: وعلَى هذا جماعةُ أهل التأويل، وجماعةُ الفقهاءِ، وهو الصحيحُ؛ أنَّ الصغائر تُكَفَّرُ باجتنابِ الكبائرِ قَطْعاً بِوَعْدِ اللَّهِ الصِّدْق، وقولِهِ الحَقِّ سبحانه، وأما الكَبَائِرُ، فلا تكفِّرها إِلا التوبةُ منْهَا. انتهى.

قلْتُ: وفي «صحيح مُسْلِمٍ»، عن أبي هريرة (رضي اللَّه عنه)؛ أنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، والسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ الغَافِلاَتِ المُؤْمِنَاتِ" . انتهى.