وقوله سبحانه: {مَّن يَشْفَعْ شَفَـٰعَةً حَسَنَةً...} الآية: قال مجاهدٌ وغيره: هي في شَفَاعَاتِ النَّاس بينهم في حوائجهم، فَمَنْ يشفعْ لينفَع، فلَهُ نصيبٌ، ومَنْ يشفعْ ليضُرَّ، فله كِفْلٌ، والكِفْلُ: النَّصيبُ، ويستعمل في الخَيْرِ وفي الشَّرِّ، وفي كتاب اللَّه تعالَىٰ:
{ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [الحديد:28]، وروى أبو داود، عن أبي أُمَامَةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: "مَنْ شَفَعَ لأحَدٍ شَفَاعَةً، فَأَهْدَىٰ لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا، فَقَبِلَهَا، فَقَدْ أَتَىٰ بَاباً عَظِيماً مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا" . انتهى. وَ {مُّقِيتاً}: معناه: قديراً؛ ومنه قولُ الزُّبَيْر بْنِ عبدِ المُطَّلِبِ: [الوافر]
وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهوَكُنْتُ عَلَىٰ إسَاءَتِهِ مُقِيتَا
أيْ: قديراً. وقيل: مُقِيتاً: معناه شهيداً، وقيل: حفيظاً.
وذهب مقاتلٌ إلى أنه الذي يَقُوتُ كلَّ حيوان، قال الداووديُّ: قال الكلبيُّ المَقِيتُ هو المُقْدِرُ بلُغَة قُرَيْشٍ. انتهى.
وقوله سبحانه: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ...} الآية: قالتْ: فرقةٌ: معنى الآية: تخييرُ الرَّادِّ؛ فإذا قال البادىءُ: «السَّلاَمُ عَلَيْكَ»، فللرادِّ أنْ يقولَ: «وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ» فقطْ، وهذا هو الرَّدُّ، وله أنْ يقولَ: «وعَلَيْكَ السَّلاَمُ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ»، وهذا هو التحيَّة بأحْسَنَ، ورُوِيَ عن ابن عُمَرَ وغيره ٱنتهاءُ السَّلام إلى البَرَكة، وقالَتْ فرقةٌ: المعنَىٰ: إذا حُيِّيتم بتحيةٍ، فإن نَقَص المسلِّمُ مِنَ النهاية، فحَيُّوا بأحْسَنَ منها، وإن ٱنتهَىٰ، فردُّوها، كذلك قال عطاءٌ، والآيةُ في المؤمنين خاصَّةً، ومَنْ سَلَّم من غيرهم، فيقالُ لَهُ: «عَلَيْكَ»؛ كما في الحديثِ، وفي أبِي داوُدَ، والترمذيِّ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ بَدَأَ بالسَّلاَمِ" . انتهى. وأكثرُ أهل العلْمِ علَىٰ أنَّ الابتداءَ بالسَّلاَمِ سُنَّةٌ مؤكَّدة، وَرَدُّه فريضةٌ؛ لأنه حقٌّ من الحقوقِ؛ قاله الحسن وغيره، قال النوويُّ: ورُوِّينا في كتاب ابْنِ السُّنِّيِّ، عن أنسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَا مِنْ عَبْدَيْنِ مُتَحَابَّيْنِ فِي اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ يَسْتَقْبِلُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَيُصَافِحُهُ، فَيُصَلِّيَانِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ لَمْ يَتَفَرَّقَا حَتَّىٰ تُغْفَرَ ذُنُوبُهُمَا، مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا وَمَا تَأَخَّرَ" ، ورُوِّينَا فيه عَنْ أَنسٍ أيضاً، قال: «مَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بِيَدِ رَجُلٍ، فَفَارَقَهُ؛ حَتَّىٰ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»؛ وَروِّينَا فيه، عَنِ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ المُسْلِمَيْنَ إذَا ٱلْتَقَيَا، فَتَصَافَحَا، وتَكَاشَرَا بِوُدٍّ وَنَصِيحَةٍ، تَنَاثَرَتْ خَطَايَاهُمَا بَيْنَهُمَا" ، وفي رواية: «إذَا ٱلْتَقَى المُسْلِمَانِ، فَتَصَافَحَا، وَحَمِدَا اللَّهَ تَعَالَىٰ، وَٱسْتَغْفَرَا ــــ غَفَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا». انتهى. و {حَسِيباً}: معناه حَفِيظاً، وهو فَعِيلٌ من الحِسَاب.
وقوله سبحانه: {ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ...} الآية: لما تقدَّم الإنذارُ والتحذيرُ الذي تضمَّنه قوله تعالَىٰ: {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلّ شَيْء حَسِيباً}، تلاه الإعلامُ بصفَةِ الربوبيَّة، وحالِ الوحدانيَّة والإعلامِ بالحَشْرِ والبَعْثِ مِنَ القبور للثَّواب والعقابِ إعلاماً بقَسَمٍ، تقديره: وَحَقِّهِ وَعَظَمَتِهِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ، والجَمعُ بمعنى الحَشْر.
وقوله سبحانه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثاً}: المعنى: لا أحَدَ أصْدَقُ مِنَ اللَّه تعالَىٰ.