التفاسير

< >
عرض

لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً
٩٥
دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٩٦
-النساء

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَـٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ... } الآية: في قوله تعالَىٰ: { لاَ يَسْتَوِي } إبهامٌ على السَّامعِ، وهو أبْلَغُ من تحديدِ المَنْزِلَةِ التي بَيْنَ المجاهد والقاعِدِ، فالمتأمِّل يَمْشِي مع فِكْرته، ولا يَزَالُ يتخيَّل الدرَجَاتِ بينهما، والقاعدُونَ عبارةٌ عن المتخلِّفين.

قلْتُ: وخرَّج أبو بَكْرِ بْنُ الخطيبِ بسنده، عن عليِّ بن أبي طالبٍ (رضي اللَّه عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ أَعْلاَهَا الحُلَلُ، ومِنْ أَسْفَلِهَا خَيْلٌ بُلْقٌ مِنْ ذَهَبٍ مُسَرَّجَةٌ مُلْجَمَةٌ بالدُّرِّ واليَاقُوت، لاَ تَرُوثُ، وَلاَ تَبُولُ، ذَوَاتُ أَجْنِحَةٍ، فَيَجْلِسُ عَلَيْهَا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ؛ فتطِيرُ بِهِمْ حَيْثُ شَاءُوا، فَيَقُولُ الَّذِينَ أَسْفَلَ مِنْهُمْ: يأهْلَ الجَنَّة، ناصِفُونا، يا ربِّ، ما بَلَّغَ هؤلاءِ هذه الكرامَةَ؟! فَيَقُولُ اللَّه تعالَىٰ: إنهم كانُوا يَصُومُونَ، وكُنْتُمْ تُفْطِرُونَ، وَكَانُوا يقُومُونَ باللَّيْلِ وَكُنْتُمْ تَنَامُونَ، وَكَانُوا يُنْفِقُونَ، وَكُنْتُمْ تَبْخَلُونَ، وَكَانُوا يُجَاهِدُونَ العَدُوَّ وَكُنْتُمْ تَجْبُنُونَ" . انتهى.

وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرو وحمزة: «غَيْرُ» - بالرفع - صفةً للقاعدين، وقرأ نافعٌ وغيره: «غَيْر» - بالنصب - ٱستثناءً من القاعدينَ، ورُوِيَ من غيرِ مَا طَرِيقٍ؛ أنَّ الآية نزلَتْ: «لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجَاهِدُونَ»، فجاء ابنُ أمِّ مكتومٍ، حين سمعها، فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ مِنْ رُخْصَةٍ، فَإنِّي ضَرِيرُ البَصَرِ، فَنَزَلَتْ عِنْدَ ذَلِكَ؛ { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ }، قَالَ الفَلَتَانُ بْنُ عَاصِمٍ (رضي اللَّه عنه)؛ كُنَّا قُعُوداً عِنْدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل علَيْه، وكان إذَا أُوحِيَ إلَيْهِ، دَامَ بَصَرُهُ مَفْتُوحَةً عَيْنَاهُ، وفَرَّغَ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ لِمَا يَأْتِيهِ مِنَ اللَّهِ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ لِلْكَاتِبِ: ٱكْتُبْ: «لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجَاهِدُونَ...» إلَى آخر الآية، قال: فقام الأعمَىٰ، فقَاَل: يا رسُولَ اللَّهِ، مَا ذَنْبُنَا؟ قَالَ: فأنزلَ اللَّهُ علَىٰ رسولِهِ، فقلْنا للأعْمَىٰ: إنه يَنْزِلُ عليه، قال: فَخَافَ أنْ ينزلَ فيه شيْءٌ، فبقيَ قائماً مكانَهُ، يقولُ: أَتُوبُ إلَىٰ رسُولِ اللَّهِ، حتَّىٰ فَرَغَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ للكَاتِبِ: ٱكْتُبْ: { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ }، وأهْلُ الضررِ: هم أهل الأعذار، إذ قد أضرَّت بهم؛ حتى منعتهم الجهَادَ؛ قاله ابنُ عَبَّاس وغيره.

وقوله تعالى: { بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ }، هي الغايةُ في كمالِ الجهَاد، قال ابن جُرَيْجٍ: الفَضْلُ بدرجةٍ هو على القَاعِدِينَ مِنْ أهْل العذر.

قال * ع *: لأنهم مع المؤمنين بنيَّاتهم؛ كما هو مذكورٌ في الحديثِ الصَّحيحِ.

قال ابنُ جُرَيجٍ: والتفضيلُ بالأجْر العظيمِ والدرجاتِ هُوَ على القَاعِدِينَ مِنْ غَيْرِ عُذْر، و { ٱلْحُسْنَىٰ }: الجنةُ التي وَعَدَهَا اللَّهُ المؤمِنِينَ؛ وكذلك قال السُّدِّيُّ وغيره.

وقال ابنُ مُحَيْرِيزٍ: الدرجاتُ: هي درجاتٌ في الجنَّةِ سَبْعُونَ ما بَيْنَ الدرجَتَيْنِ حُضْرُ الجَوَادِ المُضَمَّرِ سَبْعِينَ سَنَةً، قُلْتُ: وفي «صحيح البُخاريِّ»، عن أبي هريرةَ، عن رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قَالَ: "إنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَإذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَٱسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ فَإنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ، وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ؛ وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ" . انتهى.

وقال ابن زَيْدٍ: الدرجاتُ في الآيةِ هي السَّبْعُ المذكورةُ في «بَرَاءَةَ» في قوله تعالى: { { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ } [التوبة:120] الآية.

قال * ع *: ودرجاتُ الجهادِ، لَوْ حُصِرَتْ، أكْثَرُ من هذه، لكنْ يَجْمَعُها بذْلُ النفْسِ، والاعتمالُ بالبَدَنِ والمالِ في أنْ تكُونَ كَلمةُ اللَّهِ هي العُلْيَا، ولا شَكَّ أنَّ بحَسَب مراتِبِ الأعمال ودرجاتِهَا تكُونُ مراتِبُ الجَنَّة ودرجاتُها، فالأقوالُ كلُّها متقاربةٌ، وباقي الآية وَعْدٌ كريمٌ وتأنيسٌ.