التفاسير

< >
عرض

شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ٱللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ
١٣
وَمَا تَفَرَّقُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ
١٤
فَلِذَلِكَ فَٱدْعُ وَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
١٥
-الشورى

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلِدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً... } الآية، المعنى: شرع لكم وبَيَّنَ مِنَ المعتقدات والتوحيدِ ما وَصَّىٰ به نوحاً قَبْلُ.

وقوله: { وَٱلَّذِى } عطف على { مَا }، وكذلك ما ذكر بَعْدُ مِنْ إقامة الدِّينِ مشروعٌ ٱتفقَتِ النُّبُوَّاتُ فِيهِ؛ وذلك في المعتَقَدَاتِ، وأَمَّا الأحكامُ بانفرادها فَهِيَ في الشرائعِ مختلفةٌ، وهي المرادُ في قوله تعالى: { { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجاً } [المائدة:48] وإقامة الدين هو توحيدُ اللَّهِ ورَفْضُ سِوَاهُ.

وقوله تعالى: { وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ }: نَهْيٌ عن المُهْلَكِ مِنْ تفرُّق الأنحاء والمذاهب، والخيرُ كُلُّه في الأُلْفَةِ واجتماع الكلمة، ثم قال تعالى لنبيِّه ـــ عليه السلام ـــ: { كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ }: من توحيد اللَّه ورَفْضِ الأوثان؛ قال قتادة: كَبُرَ عليهم «لا إلٰه إلا اللَّه» وأبى اللَّه إلاَّ نَصْرها، ثم سَلاَّه تعالَىٰ عنهم بقوله: { ٱللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ... } الآية، أي: يختار ويصطفي؛ قاله مجاهد وغيره و{ يُنِيبُ } يرجع عنِ الكُفْرِ ويحرص على الخير ويطلبه.

{ وَمَا تَفَرَّقُواْ } يعني: أوائل اليهود والنصارى { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْعِلْمُ }.

وقوله: { بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي: بَغَىٰ بعضُهم على بَعْضٍ، وأدَّاهم ذلك إلى اختلاف الرأْي وافتراقِ الكلمةِ، والكلمة السابقة قال المفسرون: هي حتمه تعالى القضاءَ بأَنَّ مجازاتهم إنَّما تقع في الآخرة، ولولا ذلك لَفَصَلَ بينهم في الدنيا، وغَلَّبَ المُحِقَّ على المُبْطِلِ.

وقوله تعالى: { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } إشارة إلى معاصري نَبِيِّنا محمد ـــ عليه السلام ـــ من اليهود والنصارى.

وقيل: هو إشارة إلى العرب؛ والكتاب على هذا هو القرآن، والضمير في قوله: { لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ } يحتمل أنْ يعودَ على الكتاب، أو على محمد، أو على الأجل المُسَمَّىٰ، أي: في شَكٍّ من البعث؛ على قول مَنْ رأى أَنَّ الإشارة إلى العرب، ووَصَفَ الشَّكّ بـ{ مُرِيبٍ }؛ مبالغة فيه، واللام في قوله تعالى: { فَلِذَلِكَ فَٱدْعُ } قالت فرقة: هي بمنزلة { إِلَىٰ }؛ كأنه قال: فإلى ما وَصَّى به الأنبياءَ من التوحيدِ فَٱدْعُ، وقالت فرقة: بل هي بمعنى «من أجل» كأنه قال: من أجلِ أَنَّ الأمر كذا وكذا، ولكونه كذا فَٱدْعُ أَنْتَ إلى ربك، وبَلِّغْ ما أُرْسِلْتَ به، وقال الفخر: يعني فلأجلِ ذلك التفرُّقِ، ولأجْلِ ما حَدَثَ من الاختلافاتِ الكثيرةِ في الدينِ فادع إلى الاتفاقِ على المِلَّةِ الحنيفيَّة، واستقِمْ عليها وعلى الدعوة إليها؛ كما أمرك اللَّه، ولا تَتَّبِعْ أهواءهم الباطلة، انتهى، وخوطب ـــ عليه السلام ـــ بالاستقامة، وهو قد كان مستقيماً بمعنى: دُمْ على ٱستقامتك، وهكذا الشَّأْنُ في كُلِّ مأمورٍ بشيءٍ هو مُتَلَبِّسٌ به، إنَّما معناه الدوام، وهذه الآية ونحوها كانت نُصْبَ عَيْنَي النبيِّ ـــ عليه السلام ـــ، وكانت شديدة الموقع من نفسه، أعني قوله تعالى: { وَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ }، لأنَّها جملة تحتها جمِيعُ الطاعاتِ وتكاليفُ النبوَّة، وفي هذا المعنَىٰ ـــ قال عليه السلام ـــ: "شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُها" ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ ذَلِكَ، يَا نَبِيَّ اللَّه؟ فَقَالَ: لأَنَّ فِيهَا: { فَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } [هود:112] وهذا الخطابُ له ـــ عليه السلام ـــ بحَسَبِ قُوَّتِهِ في أمْرِ اللَّه عز وجل، وقال: هو لأُمَّتِهِ بحسب ضعفهم: استقيموا ولن تُحْصُوا.

وقوله تعالى: { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } يعني: قُرَيْشاً.

* ت *: وفَرَضَ الفَخْرُ هذه القَضِيَّةَ في أهْلِ الكتاب، وذكر ما وقع من اليهود ومحاجَّتهم في دفع الحقِّ وجَحْدِ الرسالة، وعلى هذا فالضمير في: { أَهْوَاءَهُمْ } عائدٌ عليهم، واللَّه أعلم. اهـــ.

ثم أَمَرَهُ تعالَىٰ أَنْ يَقُولَ: { آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَابٍ }، وهو أَمْرٌ يَعُمُّ سائِرَ أمته.

وقوله: { وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } قالت فرقة: اللام في { لأَعْدِلَ } بمعنى: أنْ أعدل بينكم، وقالت فرقة: المعنى وَأُمِرْتُ بما أُمِرْتُ به من التبليغ والشَّرْعِ؛ لِكَيْ أعدلَ بينكم.

وقوله: { لَنَا أَعْمَـٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـٰلُكُمْ } إلى آخر الآية ـــ ما فيه من مُوَادَعَةٍ منسوخٌ بآية السَّيْفِ.

وقوله: { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } أي: لا جدال، ولا مناظرةَ؛ قد وَضَحَ الحق، وأنتم تعاندون، وفي قوله: { ٱللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا }: وعيدٌ بَيِّنٌ.