التفاسير

< >
عرض

أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
٢٣
وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ
٢٤
-الجاثية

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ... } الآيَة: تسليةٌ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أي: لا تَهْتَمَّ بأمر الكَفَرَةِ من أجل إعراضهم عن الإيمان، وقوله: { إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } إشارة إلى الأصنام؛ إذ كانوا يعبدون ما يَهْوَوْنَ من الحجارة، وقال قتادة: المعنى: لا يَهْوَى شيئاً إلا رَكِبَهُ، لا يخافُ اللَّه؛ فهذا كما يقال: الهَوَىٰ إلٰهٌ مَعْبُودٌ، وهذه الآية وإنْ كانت نزلَتْ في هَوَى الكُفْر؛ فهِي مُتَنَاوِلَةٌ جميعَ هوى النفس الأَمَّارَةِ؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّىٰ عَلَى اللَّهِ" ، وقال سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: هَوَاكَ دَاؤُكَ؛ فَإنْ خَالَفْتَهُ فَدَوَاؤُك،، وقال وهْبٌ: إذا عَرَضَ لك أمران، وشككْتَ في خَيْرِهِمَا، فَٱنظُرْ أَبْعَدَهُمَا مِنْ هَوَاكَ فَأْتِهِ؛ ومن الحكمة في هذا قول القائل: [الطويل]

إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْصِ الْهِوَىٰ قَادَكَ الْهَوَىٰإلَىٰ كُلِّ مَا فيهِ عَلَيْكَ مَقَالُ

قال الشيخ ابن أبي جَمْرَةَ: قولُهُ صلى الله عليه وسلم: "فَيُقَالُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئاً فَلِيَتْبَعْهُ" «شيئاً» يعم جَمِيعَ الأشياء، مُدْرَكَةً كانَتْ أو غَيْرَ مُدْرَكَةٍ، فالمُدْرَكُ: كالشمس والقمر، وَغَيْرُ المُدْرَكِ، مِثْلُ: الملائكة والهَوَىٰ؛ لقوله عزَّ وجَلَّ: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ }، وما أشبه ذلك، انتهى،، قال القُشَيْرِيُّ في «رسالته»: وحُكِيَ عن أبي عمران الواسطيِّ قال: ٱنكسرَتْ بنا السفينةُ، فَبَقِيتُ أنا وٱمْرَأَتِي على لَوْحٍ، وقد وَلَدَتْ في تِلْكَ الحَالِ صَبِيَّةٌ، فصَاحَتْ بي، وقالت: يَقْتُلُنِي العَطَشُ، فقلْتُ: هو ذا يَرَىٰ حالَنَا، فرفعتُ رَأْسِي، فإذا رجُلٌ في الهواء جالِسٌ في يده سِلْسِلَةٌ من ذَهَبٍ، وفيها كُوزٌ من ياقُوتٍ أَحْمَرَ، فقال: هَاكَ، ٱشْرَبَا، قال: فأخذتُ الكُوزَ فَشَرِبْنَا منه، فإذا هو أطيبُ مِنَ المِسْكِ، وأبردُ مِنَ الثَّلْجِ، وأحلَىٰ من العَسَلِ، فقلت: مَنْ أَنْتَ ـــ رَحِمَكَ اللَّه؟ ـــ فقال: عبدٌ لمولاكَ، فقلْتُ له: بِمَ وَصَلْتَ إلَىٰ هذا؟ فقال: تركْتُ هَوَايَ لمَرْضَاتِهِ، فأجلَسَنِي في الهواء، ثُمَّ غَابَ عَنِّي، ولم أره، انتهى.

وقوله تعالى: { عَلَىٰ عِلْمٍ } قال ابن عباس: المعنى: على عِلْمٍ من اللَّه تعالى سَابِقٍ، وقالت فرقة: أي: على عِلْمٍ من هذا الضَّالِّ بتَرْكِهِ للحَقِّ وإعراضِهِ عنه، فتكُونُ الآية علَىٰ هذا التأويل من آيات العِنَادِ؛ من نحو قوله: { { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ } [النمل:14].

وقوله تعالى: { وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً } استعاراتٌ كُلُّهَا.

وقوله: { مِن بَعْدِ ٱللَّهِ } فِيهِ حَذْفُ مضافٍ، تقديره: مِنْ بعدِ إضلالِ اللَّهِ إيَّاه، واخْتُلِفَ في معنى قولهم: { نَمُوتُ وَنَحْيَا } فقالت فرقة: المعنى: يَمُوتُ الآباء، ويحيا الأبناء، وقالت فرقة: المَعْنَىٰ: نَحْيَا ونَمُوتُ، فوقع في اللفظ تقديم وتأخير، وقولهم: { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } أي: طولُ الزمانِ.