التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَىٰ ٱلنَّارِ أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقِّ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
٣٤
فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَاسِقُونَ
٣٥
-الأحقاف

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ } المعنى: واذكرْ يومَ، وهذا وعيدٌ لكفَّار قريشٍ وغيرهم، وهذا عَرْضُ مباشرةٍ.

وقوله: { أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقِّ } أي: يقال لهم: أليس هذا بالحق؟ { قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَا } فصدَّقوا بذلك حيث لا ينفعهم التصديقُ، فَرُوِيَ عن الحَسَنِ؛ أنه قال: إنَّهم لَيُعَذَّبُونَ في النارِ، وهم راضون بذلك لأنفسهم يعترفون أَنَّهُ العَدْل.

واخْتُلِفَ في تعيين أُولى الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، ولا محالةَ أَنَّ لكل نبيٍّ ورسولٍ عَزْماً وصَبْراً.

وقوله: { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } معناه: ولا تستعجلْ لهم عذاباً؛ فإنَّهم إليه صائرون، ولا تَسْتَطِلْ تعميرَهُمْ في هذه النِّعْمَةِ؛ فَإنَّهم يوم يَرَوْنَ العذاب كأنهم لَم يَلْبَثُوا في الدنيا إلاَّ ساعةً لاِحتقارهم ذلك؛ لأَنَّ المنقضيَ من الزمان يصير عَدَماً.

* ت *: وإذا علمتَ ـــ أَيُّها الأخُ ـــ أَنَّ الدنيا أضغاثُ أحْلاَم، كان من الحزم اشتغالُكَ الآنَ بتَحْصِيلِ الزادِ لِلْمَعَاد، وحِفْظِ الحَواسِّ، ومراعاةِ الأنفاس، ومراقبة مَوْلاَك، فَآتَّخِذْهُ صاحباً، وذَرِ الناس جانباً؛ قال أبو حامد الغَزَّالِيُّ ـــ رحمه اللَّه ـــ: اعلم أَنَّ صاحبك الذي لا تفارقُهُ في حَضَرِكَ وسَفَرِكَ، ونَوْمِكَ ويَقَظَتِكَ، بل في حياتك، وموتك ـــ هو رَبُّك، ومولاك، وسَيِّدُك، وخالقك، ومهما ذكرتَهُ فهو جَلِيسُكَ؛ إذ قال تعالى: "أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي" ، ومهما ٱنْكَسَرَ قلبُكَ حُزْناً علَىٰ تَقْصِيرِكَ في حق دِينِكَ، فهو صَاحِبُكَ ومُلاَزِمُكَ؛ إذْ قال: «أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبهمْ مِنْ أَجْلِي» فلو عرفته يا أخي حَقَّ معرفتِهِ لاَتَّخذْتَهُ صَاحِباً، وتركْتَ الناَّسَ جانباً، فإنْ لم تَقْدِرْ عَلَىٰ ذلك في جميع أوقاتك، فَإيَّاكَ أنْ تُخْلِيَ ليلَكَ ونهارَكَ عَنْ وَقْتٍ تخلُو فيه بموْلاَكَ، وتَلذَّذُ بمناجاتِهِ، وعند ذلك فعليكَ بآدَابِ الصُّحْبَةِ مع اللَّه تعالَىٰ، وآدابُهَا: إطراقُ الطَّرْفِ، وجَمْعُ الهَمِّ، ودَوَامُ الصَّمْتِ، وسُكُونُ الجَوَارِحِ، ومُبَادَرَةُ الأَمْرِ، واجتنابُ النَّهْي، وقِلَّةُ الاِعتراضِ عَلَى الْقَدَرِ، ودَوَامُ الذِّكْرِ باللسان، ومُلاَزَمَةُ الفِكْر، وإيثارُ الحَقِّ، واليَأْسُ من الخَلْقِ، والخضوعُ تحْتَ الهيبَةِ، والانْكِسَارُ تحت الحياء، والسُّكُونُ عن حِيَلِ الكَسْب ثِقَةً بالضَّمَان، والتَوَكُّلُ علَىٰ فَضْل اللَّه معرفةً بحسن اختياره؛ وهذا كله ينبغي أنْ يكون شعارَكَ، في جميع لَيْلِكَ ونَهَارِك، فإنَّهُ آداب الصحبة مع صاحب لا يفارقك، والخلق كُلُّهم يفارقُونَكَ في بَعْضِ أوقاتك،، انتهى من «بداية الهداية».

وقوله: { بَلاَغٌ } يحتمل معانيَ:

أحدُهَا: أَنْ يكون خبر مبتدإ محذوفٍ، أي: هذا إنذارٌ وتبليغٌ.

ويحتمل أنْ يريد: كأنْ لم يلبثوا إلاَّ ساعةً كانَتْ بلاغَهُمْ، وهذا كما تَقُولُ: متاعٌ قليلٌ، وقيل غَيْرُ هذا، وقرأ أبو مِجْلَزٍ وغَيره: { بَلَغٌ } على الأمر، وقرأ الحسنُ بْنُ أبي الحَسَنِ: { بَلاَغٌ } بالخفْضِ نعتاً لـ{ نَّهَارٍ }.

وقوله سبحانه: { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ } وقُرِىءَ شَاذاً: { فَهَلْ يُهْلَكُ } ببناء الفعل للفاعل، وفي هذه الآية وعيدٌ مَحْضٌ، وإنذارٌ بَيِّنٌ؛ وذلك أَنَّ اللَّه عز وجل جعل الحسنة بعشر أمثالها والسيئةَ بمثلها، وغفر الصغائر باجتنابِ الكبائرِ، ووعد الغفرانَ على التوبة، فلن يهلك على اللَّه إلاَّ هالَكَ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم قال الثعلبيُّ: يقال: إن قوله تعالى: { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ } أَرْجَىٰ آية في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ للمؤمنين.