التفاسير

< >
عرض

إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ
١٦
مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ
١٧
لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ
١٨
أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ
١٩
وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ
٢٠
أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ
٢١
تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ
٢٢
إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ
٢٣
أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ
٢٤
فَلِلَّهِ ٱلآخِرَةُ وٱلأُولَىٰ
٢٥
-النجم

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ } أي: غَشِيَها من أمر اللَّه ما غشيها، فما يستطيع أحد أَنْ يصفَها، وقد ذكر المُفَسِّرُون في وصفها أقوالاً هي تَكَلُّفٌ في الآية؛ لأَنَّ اللَّه تعالى أبهم ذلك، وهم يريدون شرحه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ" .

وقوله تعالى: { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ } قال ابن عباس: معناه: ما جال هكذا ولا هكذا.

وقوله: { وَمَا طَغَىٰ } معناه: ولا تجاوز المَرْئِيَّ، وهذا تحقيق للأمر، ونفيٌ لوجوه الريب عنه.

وقوله: { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ ءَايَـٰتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } قال جماعة: معناه: لقد رأى الكبرى من آياتِ رَبِّهِ، أي: مِمَّا يمكنُ أنْ يراها البشر، وقال آخرون: المعنى: لقد رأى بَعْضاً من آيات رَبِّهِ الكبرى، وقال ابن عباس وابن مسعود: رأى رفرفاً أخضرَ من الجنة، قد سَدَّ الأفق.

* ت *: وزاد الثعلبيُّ: وقيل: المعراج، وما رأى في تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه؛ دليلهُ قوله تعالى: { { لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَـٰتِنَا } [الإسراء:1]، الآية، قال عِيَاضٌ: وقوله تعالى: { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ ءَايَـٰتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } انحصرت الأفهام عن تفصيل ما أوحى، وتاهت الأحلامُ في تعيين تلك الآيات الكبرى، وقد اشتملت هذه الآيات على إعلام اللَّه بتزكية جملته ـــ عليه السلام ـــ وعِصْمَتِهَا من الآفات في هذا المسرى، فزكى فؤادَه ولسانَه وجوارِحَه؛ فقلبه بقوله تعالى: { { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } [النجم:11]، ولسانَهُ ـــ عليه السلام ـــ بقوله تعالى: { { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } [النجم:3]، وبصرَهُ بقوله تعالى: { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } اهـــ.

ولما فرغ من ذكر عظمة اللَّه وقدرته قال على جهة التوقيف: { أَفَرَءَيْتُمُ ٱللَّـٰتَ وَٱلْعُزَّىٰ... } الآية، أي: أرأيتم هذه الأوثان وحقارَتَها وبُعْدَهَا عن هذه القدرة والصفات العَلِيَّةِ، واللات: صنم كانتِ العربُ تعظمه، والعُزَّى: صخرة بيضاءُ كانت العرب أيضاً تعبُدُها، وأمَّا مناة: فكانت بالمشلل من قديد، وكانت أعظم هذه الأوثان عندهم، وكانت الأوس والخزرج تهل لها، ووقف تعالى الكُفَّارَ على هذه الأوثان، وعلى قولهم فيها: إنها بنات اللَّه، فكأَنَّه قال: أرأيتم هذه الأوثانَ وقولَكُمْ: هي بناتُ اللَّه { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنثَىٰ } ثم قال تعالى على جهة الإنكار: { تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } أي: عوجاء؛ قاله مجاهد، وقيل: جائرة قاله ابن عباس، وقال سفيان: معناه: منقوصة، وقال ابن زيد: معناه: مخالفة، والعرب تقول: ضِزْتُهُ حَقَّهُ أَضِيزُهُ بمعنى: منعته، وضِيزَى من هذا التصريف؛ قال أبو حيان: و{ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ } صفتان لمناة؛ للتأكيد، قيل: وأُكِّدَتْ بهذين الوصفين؛ لِعَظَمِهَا عندهم، وقال الزمخشري: والأخرى ذَمٌّ، وهي المتأخرة الوضيعة المقدارِ، وتُعُقِّبَ بأنَّ أخرى مُؤنث آخر، ولم يُوضَعَا لِلذَّمِ ولا للمدح.

* ت *: وفي هذا التعقب تعسف، والظاهر أَنَّ الوصفين معاً سِيقَا مَسَاقَ الذَّمِّ؛ لأَنَّ هؤلاءِ الكُفَّارِ لم يكتفوا بضلالهم في اعتقادهم ما لا يجوز في اللات والعزى، إِلى أَنْ أضافوا إلى ذلك مَنَاةَ الثالثة الأخرى الحقيرة، وكُلُّ أصنامهم حقير، انتهى.

ثم قال تعالى: { إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ } يعني: إنْ هذه الأوصافُ من أَنَّها إناث، وَأَنَّها آلهة تعْبَدُ، ونحو هذا ـــ إلاَّ أَسماءٌ، أي: تسميات اخترعتموها أنتم وآباؤكم، ما أنزل اللَّه بها برهاناً ولا حُجَّةً، وما هو إلاَّ اتِّباعُ الظن، { وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ } وهَوَى الأنفس هو إرادتها الملذة لها، وإِنَّما تجد هوى النفس أبداً في ترك الأفضل؛ لأَنَّها مجبولةٌ بطبعها على حُبِّ الملذ، وإِنَّما يَرْدَعُها وَيَسُوقُها إلى حُسْنِ العاقبة العقلُ والشرع.

وقوله سبحانه: { وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ } فيه توبيخ لهم، إِذْ يفعلون هذه القبائِحَ والهدى حاضر، وهو محمد وشرعه، والإنسان في قوله: { أَمْ لِلإِنسَـٰنِ } اسم جنس، كأَنَّه يقول: ليست الأشياءُ بالتمني والشهوات، وإِنَّما الأمر كُلُّه للَّه، والأعْمَالُ جاريةٌ على قانون أمره ونهيه، فليس لكم ـــ أَيُّهَا الكَفَرَةُ ـــ مُرَادُكُمْ في قولكم: هذه آلهتنا، وهي تشفعُ لنا، وتُقَرِّبُنَا إِلى اللَّه زُلْفَى، ونحو هذا { فَلِلَّهِ ٱلأَخِرَةُ وٱلأُولَىٰ } أي: له كل أمرهما: مُلْكاً، ومقدوراً، وتَحْتَ سلطانه، قال الشيخ أبو عبد الرَّحْمٰنِ السُّلَمِيُّ في كتاب «عيوب النفس»: ومن عيوب النفس كثرةُ التَّمَنِّي، والتَّمَنِّي هو الاعتراضُ على اللَّه عَزَّ وجلَّ في قضائه وقَدَرِهِ، ومداواتُها أَنْ يعلم أَنَّه لا يدري ما يعقبه التمني، أيجرُّهُ إلى خير أو إلى شَرٍّ؟ فإذا تَيَقَّنَ إبهام عاقبة تمنيه، أَسْقَطَ عن نفسه ذلك، ورَجَعَ إلى الرِّضَا والتسليم، فيستريح، انتهى.