التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٢
يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ
١٣
-الحديد

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ... } الآية، العامل في { يَوْمَ } قوله: { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } والرؤية هنا رؤية عينٍ، والجمهور أَنَّ النورَ هنا هو نور حقيقة، وقد روي في هذا عن ابن عباس وغيره آثار مضمنها: أَنَّ كل مؤمن ومُظْهِرٍ للإيمان، يُعْطَى يومَ القيامة نوراً فَيُطْفَأُ نُورُ كُلِّ منافقٍ، ويبقَىٰ نورُ المؤمنين، حتى إِنَّ منهم مَنْ نورُه يضيء كما بين مَكَّةَ وصنعاءَ؛ رفعه قتادة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم مَنْ نوره كالنخلة السحوق، ومنهم مَنْ نورُه يضيء ما قَرُبَ من قدميه؛ قاله ابن مسعود، ومنهم مَنْ يَهُمُّ بالانطفاء مرة وَيَبِينُ مرة على قدر المنازل في الطاعة والمعصية، قال الفخر: قال قتادة: ما من عبد إلاَّ وينادى يوم القيامة: يا فلان، هذا نورك، يا فلان، لا نورَ لك، نعوذ باللَّه من ذلك! واعلم أَنَّ العلمَ الذي هو نور البصيرة أولى بكونه نوراً من نور البصر، وإذا كان كذلك ظهر أَنَّ معرفة اللَّه تعالى هي النورُ في القيامة، فمقادير الأنوار يومَ القيامة على حسب مقادير المعارف في الدنيا، انتهى، ونحوه للغزالي، وخَصَّ تعالى بين الأيدي بالذكر؛ لأَنَّهُ موضع حاجة الإنسان إلى النور، واخْتُلِفَ في قوله تعالى: { وَبِأَيْمَـٰنِهِم } فقال بعض المتأولين: المعنى: وعن أيمانهم، فكأَنَّه خَصَّ ذكر جهة اليمين؛ تشريفاً، وناب ذلك مَنَابَ أَنْ يقول: وفي جميع جهاتهم، وقال جمهور المفسرين: المعنى: يسعى نورُهم بين أيديهم، يريد الضوء المنبسط من أصل النور، { وَبِأَيْمَـٰنِهِم }: أصله، والشيءُ الذي هو مُتَّقَدٌ فيه، فتضمن هذا القولُ أَنَّهم يحملون الأنوار، وكونهم غير حاملين أكرم؛ أَلاَ ترى أَنَّ فضيلةَ عباد بن بشر وأسيد بن حضير إنَّما كانت بنور لا يحملانه، هذا في الدنيا، فكيف بالآخرة؟! * ت *: وفيما قاله * ع *: عندي نظر، وأَيضاً فأحوال الآخرة لا تُقَاسُ على أحوال الدنيا!.

وقوله تعالى: { بُشْرَاكُمُ } أي: يقال لهم: بشراكم { جَنَّـٰتُ } أي دخولُ جنات.

* ت *: وقد جاءت ـــ بحمد اللَّه ـــ آثار بتبشير هذه الأُمَّةِ المحمديَّةِ، وخَرَّجَ ابن ماجة قال: أخبرنا جُبَارة بن المغلِّس، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن أبي بردة، عن أبيه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إذَا جَمَعَ [اللَّهُ] الخَلاَئِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَذِنَ لاُّمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في السُّجُودِ، فَسَجَدُوا طَوِيلاً، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ، فَقَدْ جَعَلْنَا عِدَتَكُمْ فِدَاءَكُمْ مِنَ النَّارِ" ، قال ابن ماجه: وحدَّثنا جُبَارَةُ بْنُ المُغَلِّسِ، حدثنا كِثِيرُ بن سليمان: عن أنس بن مالك، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ هٰذِهِ الأُمَّةَ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، عَذَابُهَا بِأَيْدِيهَا، فَإذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دُفِعَ إلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ رَجُلٌ مِنَ المُشْرِكِينَ فَيُقَالُ: هٰذَا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ" ،وفي «صحيح مسلم»: "دَفَعَ اللَّهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيَقُولُ: هٰذَا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ" انتهى من «التذكرة».

وقوله تعالى: { يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ } قيل: { يَوْمَ } هو بدل من الأول، وقيل: العامل فيه «اذكر»، قال * ع *: ويظهر لي أَنَّ العاملَ فيه قوله تعالى: { ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } ويجيء معنى الفوز أَفْخَمَ؛ كأَنَّهُ يقول: إنَّ المؤمنين يفوزون بالرحمة يومَ يعتري المنافقين كذا وكذا، لأَنَّ ظهورَ المرء يومَ خمول عَدُوِّه ومُضَادِّهِ أَبْدَعُ وأَفْخَمُ، وقول المنافقين هذه المقالةَ المحكية، هو عند انطفاء أنوارهم، كما ذكرنا قبل، وقولهم: «انْظُرُونَا» معناه: انتظرونا، وقرأ حمزة وحده: { ٱنظُرُونَا } ـــ بقطع الألف وكسر الظاء ـــ ومعناه أَخِّرُونا؛ ومنه: { فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ } ومعنى قولهم أَخِّرونا، أي: أخِّروا مشيَكم لنا؛ حَتَّى نلتحق فنقتبسَ من نوركم، واقتبس الرجل: أخذ من نور غيره قَبَساً، قال الفخر: القَبَسُ: الشعلة من النار والسراج، والمنافقون طَمِعُوا في شيء من أنوار المؤمنين، وهذا منهم جهل؛ لأَنَّ تلك الأنوار نتائج الأعمال الصالحة في الدنيا، وهم لم يقدموها، قال الحسن: يُعْطَى يومَ القيامة كُلُّ أحد نوراً على قَدْرِ عمله، ثم يؤخذ من حجر جهنم ومِمَّا فيها من الكلاليب والحسك ويُلْقَى على الطريق، ثم تمضي زمرة من المؤمنينَ، وُجُوهُهُم كالقمر ليلةَ البدر، ثم تمضي زمرة أُخرى كأضوأ كوكب في السماء، ثم على ذلك، ثم تغشاهم ظلمة تُطْفِىءُ نورَ المنافقين، فهنالك يقول المنافقون للذين آمنوا: { ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ }، انتهى.

وقوله تعالى: { قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَاءَكُمْ } يحتمل أنْ يكون من قول المؤمنين [لهم]، [ويحتمل أنْ يكون من قول] الملائكة، والقول لهم: { فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً }: هو على معنى التوبيخ لهم، أي: إنَّكم لا تجدونه، ثم أعلم تعالى أَنَّهُ يضرب بينهم في هذه الحال بسورٍ حاجز، فيبقى المنافقون في ظُلْمَةٍ وعذاب.

وقوله تعالى: { بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ } أي: جهة المؤمنين { وَظَـٰهِرُهُ }: جهة المنافقين، والظاهر هنا: البادي؛ ومنه قول الكُتَّابِ: من ظاهر مدينة كذا، وعبارة الثعلبيِّ: { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ }: وهو حاجز بين الجنة والنار، قال أبو أمامة الباهليُّ: فيرجعون إلى المكان الذي قُسِّمَ فيه النور فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم، وقد ضُرِبَ بينهم بسور، قال قتادة: حائط بين الجنة والنار، له باب { بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ }، يعني: الجنة، { وَظَـٰهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } يعني النار، انتهى، قال * ص *: قال أبو البقاء: الباء في { بِسُورٍ } زائدة، وقيل: ليست بزائدة، قال أبو حيان: والضمير في { بَاطِنُهُ } عائدٌ على الباب، وهو الأظهر لأَنَّهُ الأقرب، وقيل: على سور، أبو البقاء: والجملة صفة لـ«باب» أو لـ«سور»، انتهى.