التفاسير

< >
عرض

ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
١٧
إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ
١٨
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ
١٩
-الحديد

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { ٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْىِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا... } الآية، مخاطبة لهؤلاء المؤمنين الذين نُدِبُوا إلى الخشوع، وهذا ضرب مَثَلٍ، واستدعاء إلى الخير برفق وتقريب بليغ، أي: لا يبعد عندكم أَيُّها التاركون للخشوع رُجُوعُكُمْ إليه وتلبسكم به، فإنَّ اللَّه يحيي الأرضَ بعد موتها، فكذلك يفعل بالقلوب، يرُدُّهَا إلى الخشوع بعد بُعْدِهَا عنه، وترجع هي إليه إذا وقعت الإنابةُ والتَّكَسُّبُ من العبد بعد نفورها منه، كما يحيي الأرضَ بعد أَنْ كانت ميتة، وباقي الآية بين، و{ ٱلْمُصَّدِّقِينَ }: يعني به المتصدقين، وباقي الآية بين.

* ت *: وقد جاءت آثار صحيحة في الحَضِّ على الصدقة، قد ذكرنا منها جملة في هذا المختصر، وأسند مالك في «الموطأ» عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قال: "يَا نِسَاءَ المُؤْمِنَاتِ، لاَ تَحْقِرَنَّ إحْدَاكُنَّ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ كُرَاعَ شَاةٍ مُحْرَقاً" وفي «الموطأ» عنه صلى الله عليه وسلم "رُدُّواْ السَّائِلَ وَلَوْ بِظَلِفٍ مُحْْرَّقٍ" قال ابن عبد البر في «التمهيد»: ففي هذا الحديث الحَضُّ على الصدقة بكل ما أمكن من قليل الأشياء وكثيرها، وفي قول اللَّه عز وجل: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } :[الزلزلة:7] أوضح الدلائل في هذا الباب، وتصدقت عائشةُ ـــ رضي اللَّه عنها ـــ بحبتين من عنب، فنظر إليها بَعْضُ أهل بيتها فقالت: لا تَعْجَبْنَ؛ فكم فيها من مثقال ذرة، ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ" وإِذا كان اللَّه عز وجل يُرْبي الصدقاتِ، ويأخذ الصدقةَ بيمينه فَيُرَبِّيَهَا، كما يُرَبِّي أَحَدُنَا فَلَوَّه أَوْ فَصِيلَهُ ـــ فما بالُ مَنْ عَرَفَ هذا يَغْفُلُ عنه! وما التوفيق إلاَّ باللَّه، انتهى من «التمهيد»، وروى ابن المبارك في «رقائقه» قال: أخبرنا حرملة بن عمران أَنَّهُ سَمِعَ يزيد بن أبى حَبِيبٍ يحدِّثُ أَنَّ أبا الخير حدثه: أَنَّه سمع عقبة بن عامر يقول: سَمِعْتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "كُلُّ امْرِىءٍ في ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَل بَيْنَ النَّاسِ" قال يزيد: فكان أبو الخير لا يخطئه يومٌ إلاَّ تصدق فيه بشيء، ولو كَعْكَةً أو بَصَلَةً أو كذا، انتهى، و{ ٱلصِّدِّيقُونَ }: بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق؛ على ما ذكر الزَّجَّاج.

وقوله تعالى: { وَٱلشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ }: اخْتُلِفَ في تأويله فقال ابن مسعود وجماعة: { وَٱلشُّهَدَاءُ }: معطوف على: { ٱلصِّدِّيقُونَ } والكلامُ متَّصل، ثم اختلفتْ هذه الفرقةُ في معنى هذا الاتصال، فقال بعضها: وَصَفَ اللَّه المؤمنين بأَنَّهم صديقون وشهداء، فَكُلُّ مؤمن شهيد؛ قاله مجاهد، وروى البَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مُؤْمِنُو أُمَّتِي شُهَدَاءُ»، وَتَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآية وإنَّما خَصَّ صلى الله عليه وسلم ذكر الشهداء السبعة تشريفاً لهم؛ لأَنَّهُم في أعلى رتب الشهادة؛ أَلاَ ترى أَنَّ المقتولَ في سبيل اللَّه مخصوصٌ أيضاً من السبعة بتشريف ينفرد به، وقال بعضها: { ٱلشُّهَدَاءُ } هنا: من معنى الشاهد لا من معنى الشهيد، فكأَنَّه قال: هم أهل الصدق والشهداءُ على الأمم، وقال ابن عباس، ومسروق، والضحاك: الكلام تامٌّ في قوله: { ٱلصِّدِّيقُونَ }، وقوله: { وَٱلشُّهَدَاءُ }: ابتداءٌ مستأنف، ثم اختلفتْ هذه الفرقةُ في معنى هذا الاستئناف، فقال بعضها: معنى الآية: والشهداءُ بأنَّهم صديقون حاضرون عند ربهم، وعَنَى بالشهداء الأنبياء ـــ عليهم السلام ـــ.*ت*: وهذا تأويل بعيد من لفظ الآية، وقال بعضها: قوله: { وَٱلشُّهَدَاءُ } ابتداء يريد به الشهداءَ في سبيل اللَّه، واستأنف الخبر عنهم بأَنَّهم: { عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } فكأَنَّه جعلهم صِنْفاً مذكوراً وحده.

* ت *: وأبينُ هذه الأقوال الأوَّلُ، وهذا الأخيرُ، وإنْ صَحَّ حديث البَرَاءِ لم يُعْدَلْ عنه، قال أبو حيان: والظاهر أَنَّ { ٱلشُّهَدَاءُ } مبتدأ خبره ما بعده، انتهى.

وقوله تعالى { وَنُورُهُمْ } قال الجمهور: هو حقيقة حسبما تقدم.