التفاسير

< >
عرض

ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَٰلِ وَٱلأَوْلَٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَٰهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰماً وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنٌ وَمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ
٢٠
-الحديد

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { ٱعْلَمُواْ أَنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } هذه الآيةُ وعظ، وتبيين لأمر الدنيا وَضَعَةِ منزلتها، والحياة الدنيا في هذه الآية: عبارة عن الأشغال والتصرفاتِ والفكرِ التي هي مختصة بالحياة الدنيا، وأَمَّا ما كان من ذلك في طاعة اللَّه تعالى، وما كان في الضرورات التي تقيم الأود وتعينُ على الطاعات ـــ فلا مدخلَ له في هذه الآية، وتأملْ حالَ الملوك بعد فقرهم، يَبِنْ لك أَنَّ جميعَ ترفهم لَعِبٌ ولهو، والزينة: التحسين الذي هو خارج عن ذات الشيء، والتفاخرُ بالأموال والأنساب وغيرُ ذلك على عادة الجاهلية، ثم ضرب اللَّه عز وجل مَثَلَ الدنيا، فقال: { كَمَثَلِ غَيْثٍ... } الآية: وصورة هذا المثالِ أَنَّ الإنسانَ ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك، فيشُبُّ في النعمة، ويقوى، ويكسب المال والولد، ويغشاه الناسُ، ثم يأخذُ بعد ذلك في انحطاطٍ، ويشيب، ويضعف ويسقم، وتصيبه النوائب في ماله وذريته، ويموتُ، ويضمحلُّ أَمرهُ، وتصيرُ أمواله لغيره، وتتغير رُسُومُه؛ فأمره مِثْلُ مطر أصاب أرضاً، فنبت عن ذلك الغيثِ نباتٌ معجب أنيق، ثم هاج، أي: يبس، واصْفَرَّ، ثم تحطم، ثم تفرق بالرياح واضمحل.

وقوله: { أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ } أي: الزراع؛ فهو من كَفَرَ الحَبَّ، أي: ستره، وقيل: يحتمل أَنْ يعني الكفار باللَّه، لأَنَّهم أَشَدُّ إعجاباً بزينة الدنيا، ثم قال تعالى: { وَفِى ٱلأَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ... } الآية: كأنَّه قال: والحقيقة هاهنا، وذكر العذابَ أَوَّلاً؛ تَهَمُّمَاً به من حيث الحذر في الإنسان، ينبغي أَنْ يكونَ أولاً، فإذا تحرز من المخاوف مَدَّ حينئذ أمله، فذكر تعالى ما يحذر قبل ما يطمع فيه، وهو المغفرة والرضوان، وعبارة الثعلبيِّ: { ثُمَّ يَهِـيجُ } أي: يجفُّ { وَفِى ٱلأَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ }: لأعداء اللَّه { وَمَغْفِرَةٌ }: لأوليائه، وقال الفَرَّاءُ { وَفِى ٱلأَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ } أي: إمَّا عذاب شديد، وإمَّا مغفرة { وَما ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ }: هذا تزهيد في العمل للدنيا، وترغيبٌ في العمل للآخرة، انتهى، وهو حسن، وعن طارق قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَتِ الدَّارُ الدُّنْيَا لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا لآِخِرَتِهِ، وَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ صَدَّتْهُ عَنْ آخِرَتِهِ، وَقَصَّرَتْ بِهِ عَنْ رِضَا رَبِّهِ، فَإذَا قَالَ الْعَبْدُ: قَبَّحَ اللَّهُ الدُّنْيا قَالَتِ الدُّنْيَا: قَبَّحَ اللَّهُ أَعْصَانَا لِرَبِّهِ" رواه الحاكم في «المستدرك»، انتهى من «السلاح»، ولا يشك عاقل أَنَّ حُطَامَ الدنيا مُشْغِلٌ عنِ التأهب للآخرة؛ قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب «فضل العلم»: وقد رُوِيَ مرفوعاً: "لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةٌ، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي المَالُ" قال أبو عمر: ثم نقول: إنَّ الزهد في الحلال، وترك الدنيا مع القدرة عليها ـــ أفضلُ من الرغبة فيها في حلالها، وهذا ما لا خلافَ فيه بين علماء المسلمين قديماً وحديثاً، والآثار الواردة عنِ الصحابة والتابعين، ومَنْ بعدهم من علماء المسلمين في فضل الصبر والزهد فيها، وفَضْل القناعة، والرضا بالكفاف، والاقتصارِ على ما يكفي دون التكاثر الذي يُلْهِي ويُطْغِي ـــ: أكثر من أَنْ يحيط بها كتاب، أو يشمل عليها باب، والَّذِينَ زوى اللَّه عنهم الدنيا من الصحابة، أكثرُ من الذين فتحها عليهم أضعافاً مضاعفةً، وقد روينا عن عبد الرحمن بن عوف أَنَّهُ لما حضرته الوفاةُ بَكَى بُكَاءً شديداً، وقال: كان مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ خيراً مِنِّي؛ تُوُفِّيَ وَلَمْ يَتْرُكْ ما يُكَفَّنُ فيه، وَبَقِيتُ بعده حتى أَصَبْتُ من الدنيا وأصابت مِنِّي، ولا أحسبني إلاَّ سَأُحْبَسُ عن أصحابي بما فتح اللَّهُ عليَّ من ذلك، وجعل يبكي حتى فاضتْ نفسه، وفارق الدنيا رحمة اللَّه عليه، فإنْ ظَنَّ ظانٌّ جاهل أَنَّ الاستكثار من الدنيا ليس به بأس، أو غلب عليه الجهل؛ فَظَنَّ أَنَّ ذلك أفضل من طلب الكفاف منها، وشُبِّهَ عليه بقول اللَّه تعالى: { وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ } [الضحى:8] فيما عَدَّده سبحانه على نبيِّه صلى الله عليه وسلم من نعمه عنده ـــ فَإنَّ ذلك ليس كما ظَنَّ؛ بل ذلك غنى القلب، دَلَّتْ على ذلك الآثارُ الكثيرة؛ كقوله عليه السلام: "لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ، وَإنَّما الغِنَى غِنَى النَّفْسِ" انتهى.