التفاسير

< >
عرض

سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٢١
مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
٢٢
لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
٢٣
-الحديد

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { سَابِقُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ... } الآية: لما ذكر تعالى المغفرة التي في الآخرة، ندب في هذه الآية إلى المسارعة إليها والمسابقة، وهذه الآية حُجَّةٌ عند جميع العلماء في الندب إلى الطاعات، وقدِ استدلَّ بها بعضُهم على أَنَّ أَوَّلَ أوقات الصلوات أَفضلُ؛ لأَنَّهُ يقتضي المسارعةَ والمسابقةَ، وذكر سبحانه العَرْضَ من الجنة؛ إذِ المعهودُ أَنَّهُ أَقَلُّ من الطول، وقد ورد في الحديث: "أَنَّ سَقْفَ الجَنَّةِ الْعَرْشُ" وورد في الحديث: "أَنَّ السَّمٰوَاتِ السَّبْعَ في الكُرْسِيِّ كَالدِّرْهَمِ في الْفَلاَةِ، وَأَنَّ الْكُرْسِيَّ في الْعَرْشِ كَالدِّرْهَمِ في الْفَلاَةِ" .

* ت *: أيها الأخ، أَمَرَكَ المولى سبحانه بالمسابقة والمسارعة؛ رحمةً منه وفضلاً، فلا تغفلْ عن امتثال أمره وإجابة دعوته: [الخفيف]

السِّبَاقَ السِّبَاقَ قَوْلاً وَفِعْلاًحَذَرَ النَّفْسِ حَسْرَةَ الْمَسْبُوقِ

ذكر صاحبُ «معالم الإيمان، وروضات الرضوان» في مناقب صلحاء القيروان، قال: ومنهم أبو خالد عبد الخالق المتعبد، كان كثيرَ الخوف والحزن، وبالخوف مات؛ رأى يوماً خَيْلاً يسابق بها، فتقدمها فرسان، ثم تقدم أَحَدُهُمَا على الآخر، ثم جَدَّ التالي حتى سَبَقَ الأول، فتخلَّلَ عبد الخالق الناسَ حَتَّى وصلَ إلى الفرس السابق، فجعل يُقَبِّلُهُ ويقول: بارك اللَّه فيك، صَبَرْتَ فظفرت، ثم سقط مغشيًّا عليه، انتهى.

وقوله سبحانه: { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى ٱلأَرْضِ... } الآية: قال ابن زيد وغيره: المعنى: ما حدث من حادث، خيرٍ وشَرٍّ، فهذا على معنى لفظ أصاب، لا على عُرْفِ المصيبة؛ فإنَّ عُرْفَهَا في الشر، وقال ابن عباس ما معناه: أَنَّه أراد عرف المصيبة، فقوله: { فِى ٱلأَرْضِ } يعني: بالقحوط، والزلازل، وغير ذلك و{ فِى أَنفُسِكُمْ }: بالموت، والأمراض، وغير ذلك.

وقوله: { إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ } معناه: إلاَّ والمصيبة في كتاب و{ نَّبْرَأَهَا } معناه: نخلقها؛ يقال: برأ اللَّهُ الخلق، أي: خلقهم، والضميرُ عائد على المصيبة، وقيل: على الأرض، وقيل: على الأنفس؛ قاله ابن عباس وجماعة، وذكر المهدويُّ جوازَ عود الضمير على جميع ما ذُكِر، وهي كُلُّها معانٍ صِحَاحٌ.

{ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ }: يريد تحصيلَ الأشياءِ كلها في كتاب، وقال الثعلبي: وقيل المعنى: إنَّ خَلْقَ ذلك وحِفْظَ جميعه، على اللَّه يسير، انتهى.

وقوله: { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ } معناه: فَعَلَ اللَّهُ هذا كُلَّه، وأَعلمكم به؛ ليكونَ سَبَبَ تسليتكم وقِلَّةَ اكتراثكم بأمور الدنيا، فلا تحزنوا على فائت، ولا تفرحوا الفَرَحَ المبطر بما آتاكم منها، قال ابن عباس: ليس أحد إلاَّ يحزنُ أو يفرحُ، ولكن مَنْ أصابته مصيبةٌ فليجعلها صبراً، ومَنْ أصابه خير فليجعله شكراً؛ وفي«صحيح مسلم» عن أبي سعيد وأبي هريرةَ، أَنَّهُمَا سَمِعَا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ وَصَبٍ وَلاَ نَصَبٍ، وَلاَ سَقَمٍ وَلاَ حَزَنٍ، حَتَّى الهَمِّ يَهُمُّهُ ـــ إلاَّ كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ" ، وفي «صحيح مسلم» عن عائِشَةَ قالت: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا، إلاَّ كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خِطِيئَةٌ" ، وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرةَ قال: لَمَّا نَزَلَتْ: { { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [النساء:123] بَلَغَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغاً شَدِيداً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ المُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا وَالشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا" ، انتهى، وقد تقدم كثير في هذا المختصر من هذا المعنى، فاللَّه المسؤول أَنْ ينفع به كُلَّ مَنْ حَصَّله أو نظر فيه.

وقوله تعالى: { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }: يدلُّ على أَنَّ الفرحَ المنهيَّ عنه إنَّما هو ما أَدَّى إلى الاختيال والفخر، وأَمَّا الفَرَحُ بنعم اللَّه المقترن بالشكر والتواضع، فَإنَّه لا يستطيع أَحَدٌ دَفْعَهُ عن نفسه، ولا حرجَ فيه، واللَّه أعلم.