التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ
٢٤
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ
٢٥
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
٢٦
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
٢٧
-الحديد

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله: { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ } قال بعضهم: هو خبر مبتدإ محذوف تقديره: هم الذين يبخلون، وقال بعضهم: هو في موضع نصب؛ صِفَةً لـ{ كُلٌّ }، وإنْ كان نكرةً فهو يُخَصَّصُ نوعاً ما؛ فيسوغُ لذلك وصفه بالمعرفة، وهذا مذهبُ الأخفش، و{ ٱلْكِتَـٰبَ } هنا: اسم جنس لجميع الكتب المُنَزَّلَةِ، { وَٱلْمِيزَانَ }: العدل في تأويل الأكثرين.

وقوله تعالى: { وَأَنزْلْنَا ٱلْحَدِيدَ } عَبَّرَ سبحانه عن خلقه الحديدَ بالإنزال؛ كما قال: { { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَـٰمِ } [الزمر:6] الآية، قال جمهورٌ من المفسرين: الحديد هنا أراد به جِنْسَهُ من المعادن وغيرها، وقال حُذَّاقٌ من المفسرين: أراد به السلاح، ويترتب معنى الآية بأَنَّ اللَّه أخبر أَنَّهُ أرسل رُسُلاً، وأنزل كتباً، وعدلاً مشروعاً، وسلاحاً يُحَارَبُ به مَنْ عاند، ولم يقبل هدى اللَّه؛ إذْ لم يبقَ له عذر، وفي الآية ـــ على هذا التأويل ـــ حَضٌّ على القتال في سبيل اللَّه وترغيبٌ فيه.

وقوله: { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ } يقوِّي هذا التأويل.

وقوله: { بِٱلْغَيْبِ } معناه: بما سمع من الأَوصاف الغائبة عنه فآمن بها، وباقي الآية بين.

وقوله سبحانه: و{ قَفَّيْنَا } معناه: جئنا بهم بعد الأولِينَ، وهو مأخوذ من القفا، أي: جيء بالثاني في قَفَا الأَوَّلِ، فيجيء الأول بين يدي الثاني، وقد تقدم بيانه.

وقوله سبحانه: { وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً }: الجعل في هذه الآية بمعنى الخلق.

وقوله: { ٱبتَدَعُوهَا }: صفة لرهبانية، وخَصَّها بِأَنَّها ابْتُدِعَتْ؛ لأََنَّ الرأفة والرحمةَ في القلب، لا تَكَسُّبَ للإنسان فيها، وَأَمَّا الرهبانيةُ فهي أفعال بدن مع شيء في القلب، ففيها موضعٌ لِلتَّكَسُّبِ، ونحو هذا عن قتادة، والمراد بالرأفة والرحمة حُبُّ بعضهم في بعض وتوادُّهُم، والمراد بالرهبانية: رَفْضُ النساء، واتخاذ الصوامع والديارات، والتفردُ للعبادات، وهذا هو ابتداعهم، ولم يَفْرِضِ اللَّه ذلك عليهم، لكنهم فعلوا ذلك؛ ابتغاءَ رضوان اللَّه؛ هذا تأويل جماعة، وقرأ ابن مسعود: «مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ لَكِنِ ٱبْتَدَعُوهَا» وقال مجاهد: المعنى: كتبناها عليهم ابتغاءَ رضوان اللَّه، فالاستثناء على هذا مُتَّصِلٌ، واخْتُلِفَ في الضمير الذي في قوله: { فَمَا رَعَوْهَا } مَنِ المراد به؟ فقال ابن زيد وغيره: هو عائد على الذين ابتدعوا الرهبانِيَّة، وفي هذا التأويل لزومُ الإتمام لِكُلِّ مَنْ بدأ بتطوُّعٍ ونَفْلٍ، وأَنَّهُ يلزمُه أَنْ يرعاه حَقَّ رعيه، وقال الضَّحَّاكُ وغيره: الضمير للأخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين لها، ورُوِّينَا في « كتاب الترمذيِّ» عن كثير بن عبد اللَّه المُزَنِيِّ، عن أبيه، عن جدِّه: "أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لبِلال بن الحارث: اعْلَمْ، قَالَ: مَا أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: اعْلَمْ يَا بِلاَلُ! قَالَ: مَا أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنَّهُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي، فَإنَّ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ مَنْ عَمِلَ بِهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنِ ٱبْتَدَعَ بِدْعَةَ ضَلاَلَةٍ، لاَ يَرْضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهَا ـــ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِ النَّاسِ شَيْئاً" . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، انتهى.