التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٩
فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
١٠
وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
١١
-الجمعة

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَٰوةِ } الآية، النداءُ: هو الأذانُ، وكان على الجِدَارِ في مسجدِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفي مصنف أبي داودَ: كَانَ بَيْنَ يَدَي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهو عَلى المنبر أذَانُ، ثم زادَ عثمانُ النداءَ عَلَى الزوراء ليسمعَ الناسُ.

* ت *: وفي البخاريّ والترمذيِّ وصححه عن السائبِ بن يزيد قَالَ: كَانَ النداءُ يومَ الجمعةِ أوَّلُه إذا جَلَسَ الإمام على المنبر؛ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمرَ، فلما تَوَلَّى عثمانُ وكثرَ الناسُ، زَادَ الأذَانَ الثالثَ فأَذَّنَ به على الزَّورَاءِ، فَثَبَتَ الأَمْرُ على ذلك، قِيل: فقوله «الثالثَ» يَقْتَضِي أنَّهمُ كَانُوا ثلاثةً، وفي طريقٍ آخرَ «الثاني» بدَلَ «الثالث» وهو يَقْتَضِي أَنَّهُمَا اثنانِ، انتهى، وخرَّجَ مسلم عن أبي هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مَنِ ٱغْتَسَلَ، ثمَّ أَتَى الجُمُعَةَ، فَصَلَّىٰ مَا قُدِّرَ لَهُ، ثم أَنْصَتَ لِلإمَامِ حَتَّىٰ يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَىٰ، وَفَضَلُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ" انتهى، وخرَّجَهُ البخاريُّ من طريقِ سُلَيْمَان.

وقوله: { مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ } قال ابن هشام: «من» مرادفةِ «في»، انتهى.

وقوله تعالى: { فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ... } الآية، السعِيُ في الآيةِ لاَ يُرَادُ به الإسْرَاعُ في المشي، وإنما هو بمعنى قوله: { { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَـٰنِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [النجم:39] فالسَّعْيُ هو بالنِّيةِ والإرَادَةِ والعَمَلِ؛ مِنْ وُضُوءٍ، وغُسْلٍ، وَمَشْيٍ، ولُبْسِ ثوبٍ؛ كُلُّ ذلكَ سَعْيٌ، وَقَدْ قَالَ مالكٌ وغيره: إنما تُؤْتَى الصلاةُ بالسَّكِينَةِ، * ت *: وهو نصُّ الحديثِ الصحيحِ، وهُوَ قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة: "فَلاَ تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا [و] عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ" ، * ت *: والظاهرُ أنَّ المرادَ بالسعيِ هُنا المُضِيُّ إلى الجمعةِ، كما فسَّره الثعلبيُّ، ويدلُّ على ذلكَ إطلاقُ العلماءِ لفظَ الوجوبِ عَلَيْهِ، فيقولونَ السَّعْيُ إلَى الجمعةِ واجبٌ، ويدلُّ عَلَى ذلك قراءةُ عمرَ وعليٍّ وابنِ مسعودٍ وابن عمر وابنِ عباس وابن الزبير وجماعة من التابعين: «فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ» وقال ابن مسعود: لَوْ قَرَأْتُ: { فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } لأَسْرَعْتُ حَتَّى يَقَع رِدَائي، وقال العِرَاقِيُّ: { فَٱسْعَوْاْ } معناه بَادِروا، انتهى، وقوله: { إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } هو وعظُ الخطبةِ؛ قاله ابن المسيب، ويؤيدُه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إذَا كَانَ يومُ الجمعةِ، كَانَ عَلَىٰ كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ المَسْجِدِ مَلاَئِكَةٌ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فالأَوَّلَ، فَإذَا جَلَسَ [الإمَامُ] طَوُوُا الصُّحُفَ، وجَاؤُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ" الحديثُ خَرَّجَهُ البخاريُّ ومسلم، واللفظُ لمسلمٍ، والخُطْبَةُ عِنْدَ الجمهورِ شَرْطٌ في انعقادِ الجمعةِ، وعن أبي موسى الأشعري أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ اللَّهَ ـــ عزَّ وجلَّ ـــ يَبْعَثُ الأيَّامَ يومَ القيامةِ عَلَىٰ هَيْئَتِهَا، وَيْبَعَثُ الجُمُعَةَ زَهْرَاءَ مُنِيرَةً، أَهْلُهَا مُحِفُّونَ بِهَا؛ كالْعَرُوسِ تُهْدَىٰ إلَى كرِيمَها، تُضِيءُ لهم؛ يَمْشُونَ في ضَوْئِهَا؛ أَلْوَانُهُمْ كالثَّلْجِ بَيَاضاً، وَرِيحُهُمْ يَسْطَعُ كَالْمِسْكِ، يَخُوضُونَ في جِبَالِ الكَافُورِ، يَنْظُرُ إلَيْهِمُ الثَّقَلاَنِ، مَا يَطْرِفُونَ تَعَجُّباً، يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ لاَ يُخَالِطُهُمْ إلاَّ المُؤَذِّنُونَ المُحْتَسِبُونَ" خَرَّجَهُ القاضِي الشريفُ أبو الحسنِ علي بن عبد اللَّهِ بن إبراهيمَ الهاشميّ، قال صاحبُ «التذكرة»: وإسنادهُ صحيح، انتهى.

وقوله سبحانه: { ذٰلِكُمْ } إشارةٌ إلى السعي وتَرْكِ البَيْعِ.

وقوله: { فَٱنتَشِرُواْ } أجمعَ الناسُ على أنَّ مُقْتَضَى هذا الأمْرِ الإباحةُ، وكذلك قوله: «وابتَغُوا من فضل اللَّه» أنَّه الإبَاحَة في طلب المعاش، مثلَ قوله تعالى: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَـٰدُواْ } [المائدة:2] إلا مَا رُوِيَ عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ذلكَ الفضْلُ المُبْتَغى هو عيادةُ مريضٍ، أو صِلَةُ صديقٍ، أو اتِّباعُ جنازةٍ" ، قال * ع *: وفي هذا ينبغي أنْ يكونَ المرءُ بقيةَ يومِ الجمعةِ، ونحوه عن جعفر بن محمد، وقال مكحول: الفضلُ المبْتَغَى: العلمُ فينبغي أن يُطْلَبَ إثْرَ الجمعةِ.

وقوله تعالى: { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً... } الآية، قال معاذ بن جبل: مَا شَيْءٌ أنْجَىٰ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ: رواه الترمذي واللفظُ له، وابنُ ماجَه، والحاكمُ في «المستدرك»؛ وقال صحيحُ الإسناد، انتهى من «السلاح».

وقوله سبحانه: { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَـٰرَةً أَوْ لَهْواً... } الآية، نزلتْ بسبب أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كانَ قائِماً على المنبرِ يَخْطُبُ يومَ الجمعةِ، فأقبلت عِيرٌ مِنَ الشَامِ تحملُ مِيرةً، وصاحبُ أمْرِهَا دِحْيَةُ بن خليفةَ الكلبي، قال مجاهد: وكانَ مِن عُرْفِهِمْ أن تَدْخُلَ عِيرُ المدينةِ بالطَّبْلِ والمعازفِ، والصياحِ سروراً بها، فدخلتْ العيرُ بمثلِ ذلكَ، فانْفَضَّ أهْلُ المسجدِ إلى رؤيةِ ذلكَ وسماعِه؛ وتركُوا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قائماً عَلَى المنبرِ، ولم يَبْقَ معه غَيْر اثنَيْ عَشَرَ رَجُلاً، قال جابر بن عبد اللَّه: أنا أحَدُهُم، قال * ع *: ولم تَمُرَّ بِي تَسْمِيتُهم في ديوانٍ فيما أذْكُرُ الآنَ، إلا أنِّي سمعتُ أبي ـــ رحمه اللَّه ـــ يقولُ: همُ العشرةُ المشهودُ لهم بالجنةِ، واخْتُلِفَ في الحادِيَ عَشَرَ، فقيل: عمارُ بن ياسر، وقيل: ابن مسعودٍ، * ت *: وفي تقييد أبي الحسنِ الصغير: والاثْنَا عَشَر الباقون همُ الصحابةُ العَشَرَةُ، والحادِيَ عَشَرَ: بلالٌ، واخْتُلِفَ في الثاني عشر، فَقِيل: عمار بن ياسرِ، وقيل: ابن مسعود، انتهى، قال السهيلي: وجَاءَتْ تسميةُ الاثْنَي عَشَرَ في حديثِ مُرْسَلٍ رواه أسد بن عمرو والدُ موسى بن أسد، وفيه أنَّ: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لَمْ يَبْقَ معه إلا أبو بكرٍ وعُمَرُ وعثمانُ؛ حتى العشرةِ، وقَال: وبلالٌ وابن مسعود، وفي روايةٍ: عمارُ بَدلَ ابنِ مسعودٍ، وفي «مَرَاسِيلِ أبي داودَ» ذكر السببَ الذي من أجله تَرَخَّصُوا، فقال: إن الخطبةَ يوم الجمعةِ كَانَتْ بعدَ الصلاةِ فَتَأَوَّلُوا ـــ رضي اللَّه عنهم ـــ أنهم قَدْ قَضَوْا مَا عَلَيْهِمْ، فَحوِّلَتْ الخطبةُ بعدَ ذلك قبلَ الصلاةِ، فهذا الحديثُ وإن كانَ مُرْسَلاً فالظن الجميلُ بأصْحَابِ النبي صلى الله عليه وسلم يُوجِبُ أنْ يكونَ صحيحاً، واللَّه أعلم؛ انتهى، ورُوِيَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "لَوْلاَ هؤلاءِ لَقَدْ كَانَتِ الحِجَارَةُ سُوِّمَتْ على المُنَفضِّينَ من السماءِ" ، وفي حديثٍ آخر: "والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ تَتَابَعْتُمْ حَتَّىٰ لاَ يَبْقَىٰ أَحَدٌ لسَالَ بِكُمُ الوَادِي نَاراً" ، قَالَ البخاريُّ: { ٱنفَضُّواْ } معناه تَفَرَّقُوا، انتهى، وقرأ ابن مسعود: «وَمِنَ التِّجَارَةِ لِلَّذِينَ ٱتَّقُوْا، وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» وإنما أعاد الضميرَ في قوله: { إِلَيْهَا } على التجارةِ وَحْدَهَا لأنَّهَا أهَمُّ، وهي كَانَتْ سَبَبَ اللَّهوِ، * ص *: وقرىء «إلَيْهِمَا» بالتثنيةِ.