التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
٤
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ
٥
سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ
٦
-المنافقون

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَـٰمُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } هذا توبيخٌ لهم؛ إذ كَانَ مَنْظَرُهم يَرُوقُ جَمَالاً وقولُهُم يَخْلِبُ بَيَاناً؛ لكنَّهم كالخشبِ المُسَنَّدَة؛ إذْ لاَ أفْهَامَ لهم نافعةً، وكانَ عبدُ اللَّه بْنُ أُبَي ٱبْنِ سَلُولَ مِنْ أبْهَى المنافقينَ، وأطولِهِم، ويدلّ على ذلك أنه لَمْ يوجَدْ قميصٌ يكْسُو العباسَ غيرُ قَميصِه، قال الثعلبيُّ: { تُعْجِبُكَ أَجْسَـٰمُهُمْ } لاسْتِوَاءِ خَلْقِهَا وطُول قَامَتِهَا وحُسْنِ صُورَتِها، قَال ابن عباس: وَكَانَ عَبْدُ اللَّه بن أُبَيٍّ جَسِيماً صَبِيحاً فَصِيحاً ذَلِقَ اللِّسَانِ، فَإذَا قَالَ سَمِعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قوله ووصفهم اللَّه تعالى بتمام الصورةِ وحُسْنِ الإبَانَةِ، ثم شبَّهَهُم بالخُشُبِ المسنَّدَةِ إلى الحائِط، لا يَسْمَعُونَ وَلاَ يَعْقِلُونَ أشْبَاحٌ بِلاَ أَرْوَاحٍ، وأجْسَامٌ بِلاَ أحْلاَم، انتهى.

وقوله تعالى: { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } هَذَا أيضاً فَضْحٌ لِمَا كَانُوا يُسِرُّونَه مِنَ الخَوْفِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَقَّعَونَ أنْ يأمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللَّهِ بِقَتْلِهِمْ، قال مقاتل: فكانوا متَى سَمِعُوا نُشْدَانَ ضالةٍ، أو صِيَاحاً بأيِّ وَجْهِ، أو أُخْبِرُوا بِنُزُولِ وَحْيٍ طَارَتْ عقُولُهم حتَى يسْكُنَ ذِلَك ويكونَ في غَيْرِ شأنهم، ثم أخبرَ تعالى بأنهم همُ العدوُّ وحَذَّرَ منهم.

وقوله تعالى: { قَـٰتَلَهُمُ ٱللَّهُ } دُعَاء يَتَضَمَّنُ الإقْصَاءَ والمُنَابَذَةَ لهم، و{ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } معناهُ كَيْفَ يُصْرَفُونَ.

وقوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ... } الآية، "سَبَبُ نُزُولِها أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَزَا بني المُصْطَلِق، فَازْدَحَمَ أَجيرٌ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ يُقَالُ لَهُ جَهْجَاهٌ مَعَ سِنَانِ بْنِ وَبَرَةَ الجُهَنِيِّ، حَلِيفٌ لِلأَنْصَارِ، عَلَى الْمَاءِ فَكَسَعَ جَهْجَاهٌ سِنَاناً فَتَشاوَرَا، ودَعَا جَهْجَاهُ: يَا للْمُهَاجِرِينَ، وَدَعَا سِنَانٌ: يَا لِلأَنْصَارِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَقَال: مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ؟ فَلَمَا أُخْبِرَ بالقصةِ، قال: دَعُوهَا؛ فَإنَّهَا مُنْتِنَةٌ، فقال عبد اللَّه بن أُبَيٍّ: أَوَقَدْ فَعَلُوهَا؟ واللَّهِ، مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ جَلاَبِيبِ قُرَيْشٍ إلاَّ كَما قَال الأوَّلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، وقال: لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْها الأَذَلَّ، ثُمَّ قَال؛ لِمَنْ معه مِنَ المنافقينَ: إنَّما يُقيمُ هؤلاءِ المهاجرونَ مَعَ محمدٍ بِسَبَبِ مَعُونَتِكمْ لَهم، ولَوْ قَطَعْتُمْ ذَلِكَ عنهم؛ لَفَرُّوا، فَسَمِعَهَا منه زيدُ بن أرقم، فأخْبَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فَعَاتَبَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عبدَ اللَّه بن أُبَيٍّ عِنْدَ رجالٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فبلغَه ذلك، فَجَاءَ وَحَلَفَ مَا قَالَ ذلك، وحَلَفَ معَهُ قَوْمٌ مِنَ المُنَافِقِينَ، وكَذَّبُوا زيداً، فَصَدَّقَهُمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَقِيَ زَيْدٌ في منزلهِ لاَ ينصرفُ حَيَاءً مِنَ الناسِ فَنَزَلَتْ هذهِ السورةُ عِنْد ذَلِكَ، فبعثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى زَيْدٍ وقال لهُ: لَقَدْ صَدَقَكَ اللَّهُ يَا زَيْدُ" ، فَخَزِيَ عِنْدَ ذَلِكَ عبدُ اللَّه بن أُبَيٍّ ومَقَتَه الناسُ ولاَمه المؤْمِنونَ من قومِه، وقال له بعضهم: امْضِ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واعْتَرِفْ بذنبكَ يَسْتَغْفِرْ لَكَ، فَلَوَىٰ رَأْسَهُ إنْكَاراً لهذا الرَّأْيِ، وقال لهم: لقد أشَرْتُمْ علي بالإيمان فآمنتُ، وأَشَرْتُمْ علي بأنْ أعطِيَ زَكَاةَ مالِي فَفَعَلتُ، وَلَمْ يَبْقَ لكم إلا أن تأمروني بالسجود لِمحمَّدٍ، فهذا قَصَصُ هذه السورة مُوجَزاً، وقَرأَ نافعٌ والمفضَّل عن عاصم: «لَوَوْا» ـــ بتخفيف الواوِ ـــ وقرأ الباقون بتشديدِها.

وقوله تعالى: { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ... } الآية، رويَ أنه لما نزلتْ { { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } [التوبة:80] قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لأَزِيدَنَّ على السبعينَ، وفي حديثٍ آخَرَ: لَوْ عَلِمْتُ أنِّي لَوْ زِدْتُ على السبعينَ لَغَفَرَ لَهُمْ لَزِدْتُ، وفي هذا الحديثِ دليلٌ عَلَى رَفْضِ دليلِ الخطابِ، فَلَمَّا فعل ابْنُ أُبَيٍّ وأصحابهُ مَا فَعَلُوا شَدَّدَ اللَّه عليهم في هذه الآيةِ، وأَعْلَم أَنَّه لَنْ يَغْفِرَ لهم دونَ حَدٍّ في الاسْتِغْفَارِ.