التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ
٢
ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ
٣
ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ
٤
وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ
٥
-الملك

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ... } الآية، الموتُ والحياةُ مَعْنَيَانِ يَتَعَاقَبَانِ جِسْمَ الحيوانِ، يَرْتَفِعُ أحدهما بحلُولِ الآخَرِ، وما جاء في الحديثِ الصحيحِ من قولهِ ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ: "يُؤتَى بِالمَوْتِ يَوْمَ القِيَامَةِ في صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُذْبَحُ عَلَى الصِّرَاطِ" الحديث، فقال أهْلُ العِلْمِ: إنَّما ذَلِكَ تِمْثَالُ كَبْشٍ يُوقِعُ اللَّهُ العِلْمَ الضَّرُورِيَّ لأَهْلِ الدَّارَيْنِ أَنَّه الموتُ الذي ذَاقُوه في الدنيا، ويكونُ ذلك التمثالُ حَامِلاً للموتِ، لاَ عَلى أنه يَحُلُّ الموتُ فيه فَتَذْهَبُ عنهُ حياةٌ، ثم يَقْرِنُ اللَّه تعالى في ذلك التمثالِ إعْدَامَ الموتِ.

وقوله سبحانه: { لِيَبْلُوَكُمْ } أي: جَعَلَ لَكُمْ هاتينِ الحالتَيْنِ ليبلوَكم، أي: ليختبرَكم في حالِ الحياةِ ويُجَازِيكُم بَعْدَ الممات، وقال أبو قتادة، ونحوه عن ابن عمر، "قلت: يا رسول اللَّه، مَا مَعْنى قولِه تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }؟ فَقَال: يقول: أَيُّكُمْ أحْسَنُ عَقلاً، وأشَدُّكم للَّهِ خَوْفاً، وأحْسَنُكم في أمْرِه ونهيهِ نَظَراً، وإن كَانُوا أقلَّكم تطوُّعاً" ، وقال ابن عباس وسفيان الثوري والحسن: { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } أزْهَدُكُمْ في الدنيا، قال القرطبي: وقال السدي: (أحْسَنُكُمْ عَمَلاً)، أي: أكثَركم للموت ذِكْراً، وله أحْسَنُ استعداداً، ومِنْه أشَدُّ خوفاً وحذَراً، انتهى من «التذكرة»، وللَّه در القائل: [الطويل]

وَفِي ذِكْرِ هَوْلِ المَوْتِ وَالقَبْرِ والْبِلَىٰ عَنِ الشُّغْلِ باللَّذَّاتِ لِلْمَرْءِ زَاجِرُ
أَبَعْدَ ٱقْتِرَابِ الأَرْبَعِينَ تَرَبُّصٌوَشَيْبٌ فَذَاكَ مُنْذِرٌ لَكَ ذَاعِرُ
فَكَمْ في بُطُونِ الأَرْضِ بَعْدَ ظُهُورِهَامَحَاسِنُهُمْ فِيهَا بَوَالٍ دَوَاثِرُ
وَأَنْتَ عَلَى الدّنْيَا مُكِبٌّ مُنَافِسلِخُطَّابِهَا فِيهَا حَرِيصٌ مُكَاثِرُ
عَلَىٰ خَطَرٍ تُمْسِي وَتُصْبِحُ لاَهِياًأَتَدْرِي بِمَاذَا لَوْ عَقَلْتَ تُخَاطِرُ
وَإنَّ ٱمْرَأً يَسْعَىٰ لِدُنْيَاه جَاهِداًوَيَذْهَلُ عَنْ أُخْرَاهُ لاَ شَكَّ خَاسِرُ
كَأَنَّكَ مُغْتَرٌّ بِمَا أَنْتَ صَائِرٌلِنَفْسِكَ عَمْداً أوْ عَنِ الرُّشْدِ جَائِرُ
فَجِدَّ وَلاَ تَغْفُلْ فَعَيْشُكَ زَائِلٌوَأَنْتَ إلَىٰ دَارِ المَنِيَّةِ صَائِرُ
وَلاَ تَطْلُبِ الدُّنْيَا فَإنَّ طِلاَبَهَاوَإنْ نِلْتَ مِنْهَا ثَرْوَةً لَكَ ضَائِرُ
وَكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ هُوَ مُوقِنٌبِمَوْقِفِ عَدْلٍ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ
لَقَدْ خَضَعَتْ وٱسْتَسْلَمَتْ وَتَضَاءَلَتْلِعِزَّةِ ذِي العَرْشِ المُلُوكُ الجَبَابِرُ

انتهى،، و{ طِبَاقاً } قال الزَّجَّاجُ: هو مصدرٌ، وقيل: جمعُ طَبَقَةٍ، أو جَمْعُ طَبَقِ، والمعنى: بعضُها فوق بعض، وقال إبان بن ثعلب: سمعتُ أعْرابياً يذُمّ رَجُلاً فقال: شَرُّهُ طِبَاقُ وَخَيْرُه غَيْر باقٍ، وما ذَكره بعضُ المفسرينَ في السمٰواتِ منْ أنَّ بعضَها مِن ذَهَبٍ وفضةٍ وياقوتٍ ونحوِ هذا، ضعيفٌ لم يَثْبُتْ بذلك حديث.

وقوله سبحانه: { مَّا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَـٰوُتٍ } معناه من قِلَّةِ تَنَاسُبٍ، ومنْ خروجٍ عن إتقانٍ، قال بعض العلماء: خَلْقُ الرحمٰنِ، معنيٌّ بهِ السمٰواتُ وإيَّاها أرادَ بقوله: { هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ } وبقوله: { يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ... } الآية، وقال آخرون: بلْ يعني بهِ جَميعَ مَا خَلَقَ سبحانه من الأشياء فإنَّها لاَ تَفَاوُتَ فيها، ولا فطورَ جاريةً عَلى غَيْرِ إتْقَانٍ، قال منذر بن سعيد: أمَرَ اللَّهُ تعالى بالنظرِ إلى السماءِ وخَلْقِها، ثم أمرَ بتكريرِ النظرِ، وكذلك جميعُ المخلوقاتِ مَتَى نَظَرَها ناظرٌ لِيَرَى فيها خَلَلاً أو نَقْصاً فإنَّ بصرَه ينقلبُ خَاسِئاً حَسِيراً، وَرَجْعُ البصرِ: ترديدُه في الشيءِ المبْصَرِ، و{ كَرَّتَيْنِ } معناه مرتين، والخاسىء المبْعَدُ عن شيءٍ أرَادَه، وحَرَصَ عليه، ومنه قوله تعالى: { { ٱخْسَئُواْ فِيهَا } } [المؤمنون:108] وكذلكَ البصرُ يحرصُ على رؤيةِ فطورٍ أو تفاوتٍ، فلا يَجِدُ ذلك، فينقلبَ خاسِئاً، والحسيرُ العَيِيُّ الكالُّ.

وقوله تعالى: { بِمَصَـٰبِيحَ } يعني: النجومَ، قال الفخر: ومعنى { ٱلسَّمَاءَ ٱلدُّنْيَا } أي: القريبةُ مِنَ الناسِ، وليسَ في هذهِ الآيةِ ما يدلُّ عَلى أنّ الكواكبَ مركوزةٌ في السماء الدنيا، وذلك لأَنَّ السمٰواتِ إذا كَانَتْ شَفَّافَةً فالكواكبُ سَواءٌ كَانَتْ في السماءِ الدنيا، أو كانَتْ في سمٰواتٍ أخْرَى فَوقَها، فهي لا بد أنْ تَظْهَرَ في السماء الدنيا، وتَلُوحُ فِيها، فَعَلَى كِلاَ التَّقْدِيرَيْنِ فالسَّماء الدُّنْيَا مُزَيَّنَةٌ بها، انتهى.

وقوله: { وَجَعَلْنَـٰهَا } معناه وجَعَلْنَا مِنْها ويُوجِبُ هذا التأويلُ في الآيةِ أنَّ الكواكبَ الثابتةَ، والبروجَ، وكلَّ ما يُهْتَدَى به في البرِّ والبحرِ؛ لَيْسَت براجمةٍ، وهذا نصّ في حديثِ السير قال الثعلبي: { رُجُوماً لِّلشَّيَـٰطِينِ } يُرْجَمُونَ بِها إذَا اسْتَرَقُوا السّمْعَ فلا تُخْطِئُهُم، فمنهم مَنْ يُقْتَلُ ومنهم من يُخْبَلُ، انتهى.