التفاسير

< >
عرض

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ
١٨
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَـٰبيَهْ
١٩
إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ
٢٠
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ
٢١
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ
٢٢
قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ
٢٣
كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ
٢٤
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ
٢٥
وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ
٢٦
يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ
٢٧
مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ
٢٨
هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ
٢٩
-الحاقة

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } خطابٌ لجميعِ العَالَمِ، وفي الحديثِ الصحيحِ: "يُعْرَضُ النَّاسُ ثَلاَثَ عَرْضَاتٍ، فَأَمَّا عَرْضَتَانِ؛ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ، فَعِنْدَهَا تَتَطَايَرُ الصُّحُفُ في الأَيْدِي، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ بِشِمَالِهِ" ، قال الغَزَّالِيُّ: يَجِبُ على كُلِّ مُسْلِمٍ البِدَارُ، إلى مُحَاسَبَةِ نفسِه؛ كما قال عمرُ ـــ رضي اللَّه عنه ـــ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وإنَّمَا حِسَابُهُ لِنَفْسِهِ، أَنْ يَتُوبَ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ قَبْلَ المَوْتِ تَوْبَةً نَصُوحاً، وَيَتَدَارَكَ مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ تَقْصِيرٍ في فَرَائِضِ اللَّهِ ـــ عَزَّ وَجَلَّ ـــ ويردَّ المظالمَ حَبَّةً حَبَّةً، ويستحلَّ كلَّ مَنْ تَعَرَّضَ له بلسانِه ويدِه، وسوء ظِنّه بقلبِه، ويُطَيِّبَ قلوبَهم حتى يموتَ، ولم يَبْقَ عليه فريضةٌ ولاَ مظلمةٌ، فَهَذَا يدخلُ الجنةَ بغيرِ حِسَابٍ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى، انتهى من آخِر «الإحياء»، ونَقَلَ القرطبيُّ في «تذكرَتِه» هذه الألفاظَ بعينها.

وقوله: { هَاؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَـٰبيَهْ } معناه تَعَالُوا، وقَوْله: { ٱقْرَؤُاْ كِتَـٰبيَهْ } هُو استبشارٌ وسرورٌ * ص *: { هَاؤُمُ } «ها» بمعنَى خُذْ، قَالَ الكسائي: والعربُ تقول: هَاءِ يَا رَجُلُ، وللاثنين؛ رجلين أو امرأتين: هَاؤُمَا، وللرجال: هَاؤُمْ، وللمرأَةِ: هَاءِ بهمزة مكسورة من غير ياء، وللنساء: هَاؤُنَّ، وزعم القُتَبِيُّ أَنَّ الهمزةَ بَدَلٌ من الكافِ، وهو ضعيفٌ، إلا أنْ يعني أنها تحلُّ محلَّها في لغةِ مَنْ قال: هَاكَ وهَاكِ، وهَاكُمَا وهَاكُمْ وَهَاكُنَّ، فذلكَ مُمْكِنٌ، لا أَنَّه بَدَلٌ صناعيٌّ؛ لأَنّ الكافَ لاَ تُبْدَلُ من الهمزةِ ولا الهمزةُ منها. انتهى.

وقوله: { إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَـٰقٍ حِسَابِيَهْ } عبارةٌ عن إيمانِه بالبعثِ وغيرهِ، و{ ظَنَنتُ } هنا واقَعةٌ موقع: تَيَقَّنْتُ، وهي في مُتَيَقَّنٍ لم يقعْ بَعْدُ ولا خرج إلى الحسِّ، وهذا هُو باب الظنِّ الذي يوقع موقعَ اليقين، و{ رَّاضِيَةٍ } بمعنى مَرْضِيَّة، والقُطُوفُ: جمع قَطْفٍ وهو ما يُجْتَنَى من الثمارِ، ويقطفُ، ودنوُّها هُوَ أَنهَا تأتي طَوْعَ التَّمَنِّي فيأكلُها القائِمُ والقاعدُ والمضطجعُ بفِيه من شجرتها، و{ بِمَا أَسْلَفْتُمْ } معناه بِمَا قَدَّمْتُمْ من الأَعْمَالِ الصالحةِ، و{ ٱلاْيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ } هي أيام الدنيا: لأنها في الآخرة قَدْ خَلَتْ وذَهَبَتْ، وقال وكيع وغيره: المرادُ بـ«ما أسلفتم» من الصوم، وعموم الآية في كل الأعمال أوْلى وأحسن، * ت *: ويدلُّ على ذلك الآيةُ الأخرى { { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيـۤئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [المرسلات:43] قال ابن المبارك في «رقائقه»: أخبرنا مالك بن مغول أنّه بلغَه أنّ عمر بن الخطاب ـــ رضي اللَّه عنه ـــ قال: حَاسِبُوا أنفُسَكم قبل أن تحاسَبُوا؛ فإنَّه أهْونُ أو أيْسَرُ لحسابِكم، وزنوا أنفسَكم قبل أن تُوزَنُوا، وتجهَّزُوا للعرْضِ الأَكْبَرِ { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ } قال ابن المبارك: أخبرنا معمر عن يحيى بن المختارِ، عن الحسن قال: إن المؤمِنَ قَوَّامٌ على نفسه، يحاسبُ نفسَه للَّه، وإنما خَفَّ الحسابُ يوم القيامة عَلَى قومٍ حَاسَبُوا أنفسهم في الدنيا، وإنَّما شَقَّ الحسابُ يومَ القيامةِ على قومٍ أَخَذُوا هذا الأَمْرَ عن غير محاسبةٍ، انتهى، والذينَ يُؤتَوْنَ كتبَهم بشمائِلهم هم المخلَّدُونَ في النارِ أهلُ الكفرِ، فيتمنَّوْن أن لو كانوا مَعْدُومِينَ.

وقوله: { يَٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ } إشارةٌ إلى مؤنَةِ الدنيا، أي: ليتها لم يكن بعدها رجُوع، * ص *: { مَا أَغْنَىٰ } «ما» نافيةٌ أو استفهاميةٌ انتهى، والسلطانُ في الآيةِ الحجةُ، وقيل: إنه يَنْطِقُ بذلكَ مُلُوكُ الدنيا، والظاهر أنَّ سلطانَ كلِّ أحَدٍ حَالُه في الدنيا من عَدَدٍ وعُدَدٍ، ومنْه قوله صلى الله عليه وسلم "لاَ يُؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطَانِهِ، وَلاَ يَجْلِسُ عَلَىٰ تَكْرِمَتِهِ إلاَّ بِإذْنِهِ" .