التفاسير

< >
عرض

وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لأَخِيهِ هَارُونَ ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ
١٤٢
وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٤٣
قَالَ يٰمُوسَىٰ إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ ٱلشَّاكِرِينَ
١٤٤
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَاسِقِينَ
١٤٥
-الأعراف

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { وَوٰعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَـٰثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ... } الآية: قال ابن عباس وغيره: الثلاثون ليلةً هي شَهْرُ ذي القَعْدَة، وأن العَشْرَة هي عَشْرُ ذي الحِجَّة، وروي أن الثلاثين إِنما وعد بأن يصومَهَا، وأَنَّ مدة المناجاة هِيَ العَشْر، وحيث ورد أنَّ المواعدة أربعُونَ ليلةً، فذلك إِخبار بجملة الأمْر، وهو في هذه الآية إِخبار بتفصيله، والمعنَىٰ في قوله: { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ }: أنه خلق لَهُ إِدراكاً سَمِعَ به الكلام القائِمَ بالذاتِ القديمِ الذي هو صفةُ ذاتٍ، وكلامُ اللَّه سبحانه لا يشبه كلامَ المخلوقين، وليسَ في جهة مِنَ الجهاتِ، وكما هو موجودٌ لا كالموجودات، ومعلومٌ لا كالمعلومات؛ كذلك كلامه لا يُشْبِهُ الكلامَ الذي فيه علاماتُ الحدوثِ، وجَوابُ «لَمَّا» في قوله: { قَالَ }، والمعنى أنَّه لمَّا كلَّمه اللَّه عزَّ وجلَّ، وخصَّه بهذه المرتبة، طَمَحَتْ همته إِلى رُتْبة الرؤْية، وتشوَّق إِلى ذلك، فسأل ربَّه الرؤية، ورؤيةُ اللَّه عز وجلَّ عند أهل السنة جائزةٌ عقْلاً؛ لأنه من حيثُ هو موجودٌ تصحُّ رؤيته؛ قالوا: لأن الرؤية للشَّيْءِ لا تتعلَّق بصفةٍ مِنْ صفاته أَكْثَرَ من الوُجُود، فموسى عليه السلام لم يسأَلْ ربَّه محالاً، وإِنما سأله جائزاً، وقوله سبحانه: { لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ... } الآية: ليس بجواب مَنْ سأل محَالاً، و«لَنْ» تنفي الفَعْلَ المستقبَلَ، ولو بقينا مع هذا النفْي بمجرَّده، لقضينا أنه لا يَرَاهُ موسَىٰ أبداً، ولا في الآخرةِ، لكنْ ورد من جهة أخرَىٰ بالحديثِ المتواتر؛ أنَّ أهل الإِيمانَ يَرَوْنَ اللَّه يوم القيامة، فموسى عليه السلام أحرَى برؤيته، قُلْتُ: وأيضاً قال تعالى: { { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة:22،23] فهو نصٌّ في الرؤية بيَّنه صلى الله عليه وسلم؛ ففي «الترمذي» عن ابن عمر، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "إِنَّ أَدْنَىٰ أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَىٰ جنَانِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَنَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَأَكْرَمُهُمْ عَلَىٰ اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إِلى وَجْهِهِ غُدْوَةً وعَشيَّةً" ، ثم قرأ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم: { { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة:22،23]، قال أبو عيسىٰ: وقد روي هذا الحديثُ مِنْ غير وجه مرفوعاً، وموقوفاً. انتهى.

قال مجاهد وغيره: إن اللَّه عز وجل قال له: يا موسَىٰ، لن تراني، ولكنّ سأتجلَّى للجَبَل، وهو أقوَىٰ منك، وأَشَدُّ؛ فإِن ٱستقرَّ وأطاقَ الصبْرَ لهيبتي، فسَتُمْكِنُكَ أَنْتَ رؤيتي.

قال * ع *: فعلى هذا إِنما جعل اللَّه الجَبَل مثالاً، قلتُ: وقول * ع *: ولو بَقِينَا مَعَ هذا النفْي بمجرَّده، لَقَضَيْنَا أنَّه لا يراه موسَى أبداً ولا في الآخرة، قولٌ مرجوحٌ لم يتفطَّن له رحمه اللَّه، والحقُّ الذي لا شَكَّ فيه أَنَّ «لن» لا تقتضي النفْيَ المؤبَّد.

قال بدْرُ الدين أبو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مالِكٍ في شرح التَّسْهِيلِ: «وَلَنْ» كغيرها من حروفِ النفي في جواز كون ٱستقبال المنفيِّ بها منقَطعاً عنْدَ حَدٍّ وغَيْرَ منقطعٍ، وذكر الزمخشريُّ في أُنْمُوذجِهِ؛ أَنَّ «لَنْ» لتأبيدِ النفْي، وحاملُهُ علىٰ ذلك اعتقادُهُ أنَّ اللَّه تعالى لا يُرَى، وهو اعتقادٌ باطلٌ؛ لصحَّة ثبوتِ الرؤية عن رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ وٱستدلَّ عَلىٰ عدم اختصاصها بالتأبيد بمجيء ٱستقبالِ المنْفِيِّ بها مُغَيًّا إِلى غايةٍ ينتهي بٱنتهائها، كما في قوله تعالى: { { قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَـٰكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ } [طه:91]، وهو واضح. انتهى، ونحوه لابْنِ هشامٍ، ولفظه: ولا تفيدُ «لَنْ» توكيدَ المنفيِّ؛ خلافاً للزمخشريِّ في «كشافه»، ولا تأْبِيدَهُ، خلافاً له في «أنموذجه»، وكلاهما دَعْوَىٰ بلا دليلٍ؛ قيل: ولو كانَتْ للتأبيدِ، لم يقيد منفيُّها بـــ «اليوْم» في { { فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً } [مريم:26] ولكان ذكْرُهُ «الأَبَدَ» في { { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا } [البقرة:95] تَكْراراً، والأصل عدمه. انتهى من «المغني».

وقوله سبحانه: { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ }: التجلِّي: هو الظهورُ منْ غير تشبيهٍ ولا تكييفٍ، وقوله: { جَعَلَهُ دَكّاً }، المعنى: جعله أرضاً دكًّا، يقال: ناقةٌ دَكَّاء، أَيْ: لا سنامَ لها، { وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً }، أي: مغشيًّا عليه، قاله جماعة من المفسِّرين.

قال * ص *: { وَخَرَّ } معناه سقَطَ، وقوله: { سُبْحَـٰنَكَ }، أي: تنزيهاً لك؛ كذا فسَّره النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقوله: { تُبْتُ إِلَيْكَ }، معناه: منْ أن أسألك الرُّؤْية في الدنيا، وأنْتَ لا تبيحها فيها.

قال * ع *: ويحتمل عنْدي أنه لفظ قاله عليه السلام؛ لشدَّة هَوْل المَطْلَعَ، ولم يعن التَّوْبَة مِنْ شيء معيَّن، ولكنَّه لفظٌ لائقٌ بذلك المقامِ، والذي يتحرَّز منه أَهْلُ السنة أنْ تكون تَوْبَةً من سؤال المُحَال؛ كما زعَمَتِ المعتزلةُ، وقوله: { وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ }، أي: مِنْ قومه؛ قاله ابن عباس وغيره، أَو مِنْ أَهْلِ زمانه؛ إِنْ كان الكُفْر قد طَبَّق الأرض، أو أولُ المؤمنين بأنك لا تُرَىٰ في الدنيا؛ قاله أبو العالية.

وقوله سبحانه: { فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ } فيه تأديبٌ، وتقنيعٌ، وحملٌ على جادَّة السلامة، ومثالٌ لكلِّ أحدٍ في حاله، فإِن جميع النِّعم من عند اللَّه سبحانه بمْقدَارٍ، وكُلُّ الأمور بِمَرْأًى منه ومَسْمَعٍ، { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ }، أي: مِنْ كل شيءٍ يَنْفَعُ في معنى الشرْع، وقوله: { وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } مثُلُه، وقوله: { بِقُوَّةٍ }، أي: بجدٍّ وصبرٍ عليها؛ قاله ابن عباس، وقوله: { بِأَحْسَنِهَا } يحتملُ معنيين.

أحدهما: التفضيلُ؛ كما إِذا عرض مثلاً مباحانِ؛ كالعفو والقِصَاصِ، فيأخذون بالأحْسنِ منهما.

والمعنى الثاني: يأخذون بَحَسن وَصْفِ الشريعة بجملتها؛ كما تقول: اللَّه أَكْبَرُ، دون مقايسة.

وقوله سبحانه: { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَـٰسِقِينَ }، الرؤية هنا: رؤيةُ عَيْن؛ هذا هو الأظهر إِلا أن المعنَىٰ يتضمَّن الوعد للمؤمنين، والوعِيدَ للفاسقين، ودارٌ الفاسقين: قيل: هي مِصْرُ، والمراد آل فرعون، وقيل: الشام، والمراد العَمَالِقَةُ وقيل: جَهَنَّم، والمرادُ الكَفَرَةُ بموسى، وقيل غير هذا ممَّا يفتقرُ إِلى صحة إِسناد.