التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ
١
قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً
٢
نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً
٣
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً
٤
-المزمل

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

قوله عز وجل: { يَٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } نداءٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال السهيلي: المُزَّمِّلُ اسمٌ مشتقٌ من حالتِه التي كَانَ عليها ـــ عليه السلام ـــ حينَ الخطابِ، وكذلكَ المدَّثِّرُ، وفي خطابِه بهذَا الاسْمِ فائِدَتان: إحداهما: الملاطفةُ فإنَّ العربَ إذا قَصَدَتْ ملاطَفَةَ المخاطَبِ، وتَرْكَ معاتَبَتهِ سَمَّوْهُ بٱسْمٍ مشتقٍ من حالتِه، كقوله ـــ عليه السلام ـــ لعلي حين غَاضَبَ فاطمةَ: قُمْ أبا تُرَابٍ، إشعاراً له أنه غَيْرُ عاتبٍ عليه، وملاطَفَةً له، والفائدة الثانية: التنبيهُ لكلِّ مُتَزَمِّلٍ راقدٍ ليلَه؛ لينتبهَ إلى قيامِ الليل وذكرِ اللَّه فيه، لأنَّ الاسْمَ المشتق من الفعلِ، يَشْتَرِكُ فيه معَ المخاطَب كلُّ مَنْ عَمِلَ بذلك العملِ، واتَّصَفَ بتلك الصفةِ، انتهى، والتَزَمُّلُ الاِلْتِفَافُ في الثياب، قال جمهور المفسرين وهو في البخاري وغيره: "إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا جَاءَه المَلَكُ في غار حراء وَحَاوَرَه بما حَاوَرَه به، رَجَعَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى خَدِيجَةَ فَقَال: زَمِّلُوني زَمِّلُوني؛ فنزلت يأيها المدثر" و[على هذا نزلت «يأيها المزمل»].

وقوله تعالى: { قُمِ ٱلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً } قال جمهور العلماءِ: هو أمْرُ نَدْبٍ، وقيل كَانَ فَرْضاً وقْتَ نزول الآيةِ، وقال بعضُهم: كان فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم خاصَّةً وبَقِيَ كذلك حتى تُوُفِّي، وقيل غير هذا.

وقوله تعالى: { نِّصْفَهُ } يحتملُ: أن يكونَ بَدَلاً من قوله قليلاً، * ص *: { إِلاَّ قَلِيلاً } استثناءٌ من الليلِ، و{ نِّصْفَهُ } قيل: بَدَلٌ من الليل وعلى هذا يكون استثناءُ { إِلاَّ قَلِيلاً } منه، أي: قم نصفَ الليل إلا قليلاً منه، والضميرُ في قوله: { أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ }، { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } عائدٌ على النصْفِ وقيل: { نِّصْفَهُ }: بدل من قوله: { إِلاَّ قَلِيلاً } قَالَ أبو البَقَاءِ، وهو أشْبَهُ بظاهرِ الآيةِ، انتهى، قال * ع *: وكَيْفَ مَا تَقَلَّبَ المعنى فإنه أمْر بقيامِ نصفِ الليلِ، أو أكْثَر شيئاً أو أقَلَّ شيئاً، فالأكْثر عند العلماء لا يُزِيدُ على الثُّلثَيْنِ، والأقَلُّ لاَ يَنْحَطُّ عَن الثلثِ، ويُقَوِّي هذا حديثُ ابنِ عَبَّاسٍ في مَبِيتهِ في بيت ميمونة؛ قال: فلما انْتَصَفَ الليلُ أو قَبْلَه بقليلٍ أو بعده بقليل، قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال * ع *: ويلزمُ على هذا البَدَلِ الذي ذَكَرْنَاه أن يكونَ نصفُ الليل قَدْ وَقَعَ عليه الوصفُ بقليلٍ، وقَدْ يحتملُ عندي قوله: { إِلاَّ قَلِيلاً } أنْ يكون استثناءً من القيام، فنجعلُ الليلَ اسْم جِنْسٍ ثم قال: { إِلاَّ قَلِيلاً } أي: إلا الليالي التي تُخِلُّ بقيامِها لعذرٍ، وَهَذَا [النظرُ يَحْسُنُ مَعَ القولِ بالنَّدْبِ جِدًّا، قال * ص *: وهذا [النَّظَرُ خلافُ ظاهرِ الآية، انتهى، والضميرُ في { مِنْهُ } و{ عَلَيْهِ } عائِدَان على] النصف.

وقوله سبحانه: { وَرَتِّلِ }: معناه في اللغةِ: تَمَهَّلْ وَفَرِّقْ بَيْنَ الحروفِ، لَتَبِينَ، والمقْصِدُ أنْ يَجِدَ الفِكْرُ فُسْحَةً للنَّظَرِ وفَهْمِ المعاني، وبذلكَ يَرِقُّ القَلْبُ، ويَفِيضُ عليه النُّورُ والرحمة، قال ابن كيسان: المُرادُ: تَفْهَمُه تالياً له، ورُوِي في صحيح الحديث: أن قراءةَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم كانَتْ بيِّنَةً مُتَرسِّلَةً، لو شاء أحَدُ أنْ يَعُدَّ الحروفَ لعَدَّها، قال الغزاليُّ في «الإحياء»: واعْلَمْ أنَّ التَرْتِيلَ والتَّؤُدَةَ أقْرَبُ إلى التوقير والاحترامِ، وأشَدُّ تأثيراً في القلبِ من الهَدْرَمَةِ والاسْتِعْجَالِ، والمَقْصُودُ مِنَ القراءَةِ التفكُّرُ، والترتيلُ مُعِينٌ عَلَيْهِ، وللناس عاداتٌ مختلفة في الخَتْمِ، وأوْلَى مَا يُرْجَعُ إليه في التقديراتِ قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قَال ـــ عليه الصَّلاةُ والسلام ـــ: "مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ في أَقَلِّ مِن ثَلاَثٍ، لَمْ يَفْقَهْهُ" وذلك لأَنَّ الزيادةَ عليهَا تمنعُ الترتيلَ المطلوبَ، وقَدْ كَرِهَ جماعةٌ الختمَ في يومٍ ولَيْلَةٍ، والتفصيلُ في مقدار القراءة أنَّه إنْ كَانَ التالي من العُبَّادِ السالكينَ طريقَ العَمَلِ، فلا يَنْبَغِي له أن يَنْقُصَ من خَتْمَتَيْنِ في الأُسْبُوعِ، وإنْ كانَ من السالكينَ بأعْمَالِ القَلْبِ وضرُوب الفِكْر، أو من المشغولين بِنَشْرِ العلمِ فَلا بأسَ أنْ يَقْتَصِر في الأُسْبُوعِ على ختمةٍ، وإنْ كَانَ نَافِذَ الفِكْرِ في مَعَانِي القرآن فَقَدْ يكتفِي في الشهر بمرةٍ لحاجَتِهِ إلى كَثْرَةِ التَّرْدِيدِ والتأمُّل، انتهى، ورَوَى ابنُ المباركِ في «رقائقه»: قال: حدثنا إسماعيل عن أبي المتوكِّل الناجي: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِآيَةٍ مِنَ القُرْآنِ يُكَرِّرُهَا عَلَىٰ نَفْسِهِ" ، انتهى.