وقوله سبحانه: { لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ }، وقرأ حمزة والكسائيُّ: «لِيُمَيِّزَ اللَّهُ» - بضم الياءِ، وفتحِ الميم، وشدِّ الياء -، قال ابن عباس وغيره: المعنيُّ بـــ { ٱلْخَبِيثَ }: الكفَّارُ، وبـ { ٱلطَّيِّبِ } المؤمنون، وقال ابْنُ سَلاَّم والزَّجَّاج: { ٱلْخَبِيثَ }: ما أنفقه المشركون في الصَّدِّ عن سبيل اللَّه، و{ ٱلطَّيِّبِ }: هو ما أنفقه المؤمنون في سبيل اللَّهِ.
قال * ع *: رُوِيَ عن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ اللَّه سبحانه يُخْرِجُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَالِ مَا كَانَ صَدَقَةً أَوْ قُرْبَةً، ثُمَّ يأْمُرُ بِسَائِرِ ذَلِكَ، فَيُلْقَىٰ فِي النَّارِ: وعلى التأويلين: فقوله سبحانه: { وَيَجْعَلَ ٱلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً } إِنما هي عبارةٌ عن جَمْع ذلك، وضَمه، وتأليف أشتاته، وتكاثُفِه بٱلاجِتماعِ، ويَرْكُمُهُ؛ في كلام العرب: يُكَثِّفه؛ ومنه
{ { سَحَـابٌ مَّرْكُومٌ } [الطور:44] وعبارة البخاريِّ: فيركمه: فَيَجْمَعه. انتهى. وقوله سبحانه: { إِن يَنتَهُواْ }، يعني: عن الكفر، { يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ }؛ لأن الإِسلام يجُبُّ ما قبله، و{ إِن يَعُودُواْ }، يريدُ بِهِ: إِلى القِتَالِ، ولا يصحُّ أن يُتَأَوَّل: وإن يعودوا إِلى الكُفْرِ؛ لأنهم لم ينفصلوا عنه.
وقوله: { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ ٱلأَوَّلِينَ }: عبارةٌ تجمَعُ الوعيدَ والتهديدَ والتمثيلَ بمَنْ هَلَكَ من الأمم في سالف الدَّهْرِ بعذاب اللَّه؛ حين صدَّ في وَجْهِ نبيِّه بمَنْ هلك في يَوْمِ بَدْرٍ بسيف الإسلام.
وقوله سبحانه: { وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } قال ابنُ عباس، وابن عمر، وغيرهما: الفِتْنَةُ: الشِّرْكُ.
قال * ع *: وهذا هو الظاهر، ويفسِّر هذه الآيةَ قولُه صلى الله عليه وسلم:
"أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلٰهَ إِلاَّ اللَّه" الحديث. وقال ابن إِسحاق: معناها: حتَّى لا يفتن أحَدٌ عن دينهِ؛ كما كانت قريشٌ تَفْعَلُ بمكَّة بمن أَسْلَمَ.
وقوله: { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ }، أيْ: لا يُشْرَكَ معه صَنَمٌ، ولا وَثَنٌ، ولا يُعْبَدَ غيرُهُ سبحانه، ثم قال تعالَى: { فَإِنِ انْتَهَوْاْ }، عن الكفر، { فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } بِعَمَلِهم، مُجَازٍ عليه، عنده ثوابه، وجميلُ المقارضة عليه.
وقوله سبحانه: { وَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ }: معادلٌ لقوله: { فَإِنِ انْتَهَوْاْ }، المعنى: وإِن تولَّوا، ولم ينتهوا، فٱعلموا أن اللَّه تعالَى ينصُرُكُمْ عليهم، وهذا وعدٌ مَحْضٌ بالنصْرِ والظَّفرِ، و{ ٱلْمَوْلَىٰ }؛ هاهنا ٱلمُوَالى والمُعِينُ، والمَوْلَى في اللغة على معانٍ، هذا هو الذي يليقُ بهذا الموضعِ منها، والمَوْلَىَ: الذي هو السيِّد المقترنُ بالعَبْدِ يعمُّ المؤمنين والمشركين.