التفاسير

< >
عرض

وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ
٣
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ
٤
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ
٥
وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ
٦
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ
٧
وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ
٨
وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ
٩
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ
١٠
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ
١١
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ
١٢
وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَٱلأُولَىٰ
١٣
فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ
١٤
-الليل

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } يحتملُ أنْ تكونَ «ما» بمعنى: «الذي» ويحتملُ أَنْ تكونَ مصدريةً، والذكرُ والأنثى هنا عامٌّ، وقال الحسن: المرادُ آدمُ وحواء، والسَّعْيُ العَمَلُ، فأخبرَ تعالى مُقْسِماً أَنَّ أعمالَ العبادِ شَتَّى، أي: مُفْتَرِقَةً جدًّا؛ بعضُها في رِضَى اللَّهِ، وبعضها في سَخَطِه، ثم قَسَّم تعالى الساعينَ فقال: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ } الآية، ويُروى أن هذهِ الآيَة نزلتْ في أبي بكرٍ الصديقِ ـــ رضي اللَّه عنه ـــ.

وقوله تعالى: { وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ } قيل هي: لا إلٰه إلا اللَّه، وقيل: هي الخَلَفُ الذي وَعَدَ اللَّه بهِ، وقيل: هي الجنةُ، وقال كثيرٌ من المتأولينَ: الحسنى: الأجرُ والثوابُ مُجْمَلاً، والعُسْرَى: الحال السيئة في الدنيا والآخرة، ومن جَعل { بَخِلَ } في المالِ خَاصَّةً؛ جَعَلَ { ٱسْتَغْنَىٰ } في المالِ أيضاً، لتَعْظُمَ المَذَمَّةُ، ومَنْ جَعَلَ { بَخِلَ } عَامًّا في جَمِيعِ مَا يَنْبَغِي أن يبْذَلَ، مِنْ قَولٍ أو فعلٍ؛ قال: { ٱسْتَغْنَىٰ } عن اللَّهِ ورحمتهِ بِزَعْمِه، وظاهرُ قولهِ: { وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ } أَنَّ الإعطاءَ والبخلَ المذكورين إنما هما في المال.

وقوله تعالى: { إِذَا تَرَدَّىٰ }، قال قتادة وغيره: معناه تردَّى في جهنم. وقال مجاهد: { تَرَدَّىٰ } معناه: هَلَكَ من الردَّى، وخَرَّج البخاريُّ وغيرُه عن علي ـــ رضي اللَّه عنه ـــ قال: "كُنَّا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في بَقِيعِ الغَرْقَدِ في جِنَازَةٍ، فقالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، أوْ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإلاَّ قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، أفَلاَ نتَّكِلُ عَلَىٰ كِتَابِنَا، وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ؛ فَسَيَصِيرُ إلَىٰ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ؛ فَسَيَصِيرُ إلَىٰ عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ؟ قال: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ } إلى قوله: { لِلْعُسْرَىٰ }" وفي روايةٍ، لَمَا قيلَ له: "أفَلاَ نتَّكِلُ عَلَىٰ كِتَابِنَا، قال: لاَ؛ بَلِ ٱعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" الحديثَ، وخرَّجه الترمذيُّ أيضاً، انتهى، قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه»: "وسأَلَ شَابَّانِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالاَ: العَملُ فِيما جَفَّتْ بهِ الأَقْلاَمُ وجَرَتْ بهِ المَقَادِيرُ أَمْ في شَيْءٍ مُسْتَأْنَفٍ؟ فقال: بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلاَمُ، وجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ، قَالاَ: فَفِيمَ العَمَلُ إذَنْ: قَالَ: ٱعْمَلُوا؛ فَكُلُّ مُيسَّر لِعَمَلِهِ الَّذِي خُلِقَ له قالا: فالآنَ نَجِدُّ ونَعْمَلُ" انتهى، وقال قوم: معنى تَرَدَّىٰ، أي: بأكْفَانِهِ مِنَ الرِّدَاءِ؛ ومنه قول الشاعر:[الطويل]

نُصِيبُكَ مِمَّا تَجْمَعُ الدَّهْرَ كُلَّهُرَدَاءَانِ تُلْوَىٰ فِيهِمَا وَحَنُوطُ

ثم أخبر تعالى أن عليه هدى الناس جميعاً، أي: تعريفَهم بالسُّبل كلِّها، وليستْ هذه الهدايةُ بالإرشَادِ إلى الإيمان، ولو كانَ ذلِك لَمْ يُوجَدْ كافرٌ، قال البخاريُّ: «تَلَظَّى»: تُوَهَّجٌ وقال الثعلبيَّ: تَتَوقَّدُ، وتتوهَّج، انتهى.