التفاسير

< >
عرض

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
٥
-الفاتحة

اللباب في علوم الكتاب

إِيَّاكَ: كلمة ضمير خُصَّت بالإضافةِ إلى المُضْمَر، ويُسْتَعْمل مقدماً على الفعل. وإيَّاكَ أَسْأَلُ؛ ولا يُسْتَعملُ مؤخراً إلاّ منفصلاً؛ فيُقالُ، ما عنيتُ إِلاَّ إِيَّاك.
وهو مفعولٌ مُقَدَّمٌ على "نعبد" قُدِّم للاختصاصِ، وهوَ واجِبُ الانفصالِ.
واخْتلَفُوا فيه: هَلْ هو مِنْ قَبِيل الأسماءِ الظاهرة أو المضمرة؟ فالجمهورُ: على أنه مُضْمَرٌ.
وقال الزَّجَّاجُرحمه الله تعالى: هو اسمٌ ظاهر.
والقائِلُون بأَنَّهُ ضميرٌ اخْتَلَفُوا فيه على أربَعةِ أقوالٍ:
أحدُهما: أنه كلمةُ ضَمِيرٍ.
والثاني: عَلَى أَنَّ "إِيَّا" وَحْدَهُ ضَمِيرٌ، وما بَعْدَهُ اسمٌ مُضَافٌ إليه يبيّن ما يُرادُ به [من تكلّم وغيبة وخطابِ].
وثَالِثُها: أَنَّ "إِيَّا" وحده ضميرٌ، وما بعده حُرُوفٌ تبين ما يُرادُ به [من تكلم وغيبة وخطاب].
ورابعُها: أَنَّ "إيَّا" عمادٌ وما بعده هو الضميرُ، وشذّت إضافته إلى الظاهِرِ في قولِهِم: "إذا بلغ الرَّجُلَ السِّتِّينَ، فإياه وإِيَّا الشَّواب" بِإِضَافَةِ "إِيَّا" إلى "الشواب"، وهذا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الكَافَ، والهاء، والياء في محلّ جر، إِذا قُلْتَ: "إِيَّاكَ إِيَّاه إِيَّايَ" وقد أَبْعَدَ بعضُ النَّحوِيِّينَ، فجعل له اشْتِقاقَاً، ثُمَّ قال: هَلْ هو مشتقٌّ من "أَوَّ"؛ كقول الشاعر في ذلك: [الطويل]

62- فَأَوِّ لِذِكْرَاهَا إِذَا ما ذَكَرْتُهَا..................

أَوْ منْ "آيَة"؛ كقوله [الرجز]

63- لَمْ يُبْقِ هَذَا الدَّهْرُ مِنْ آيَائِهِ

وهل وَزْنُه: "إفْعَل، أو فَعِيل، أو فَعُول" ثم صَيرَّه التصريفُ إلى صِيغةِ "إِيَّا"؟ وهذا الذي ذكره لا يُجدِي فائدةً، مع أنَّ التصريفَ والاشتقاق لاَ يَدْخُلاَن في المتوغِّلِ في البناءِ وفيه لُغاتٌ: أَشْهرُها: كَسْرُ الهمزةِ، وتَشْدِيدُ اليَاءِ، ومنها، فَتْحُ الهمزةِ وإبدالُها هاء مع تشديدِ الياءِ وتَخْفِيفهَا؛ قال الشَّاعر: [الطويل]

64- فَهَيَّاكَ وَالأَمْرَ الَّذِي الَّذِي إِنْ تَرَاحَبَتْ مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلِيْكَ مَصَادِرُهْ

وقال بعضُهم: "إِيَّاكَ" بالتَخْفِيفِ مرغوبٌ عنه؛ لأنه يَصِيرُ: "شَمْسَك نعبد"؛ فإِنَّ إِيَاةَ الشمسِ: ضَوْؤُها - بكسر الهَمزةِ، وقد تُفْتَحُ. وقيل: هي لها بمنزلةِ الهَالةِ للقمر، فإذا حذفت التاءَ، مَدَدْتَ؛ قال: [الطويل]

65- سَقَتْهُ إِيَاءُ الشَّمْسِ إِلاَّ لِثَاتِهِ أُسِفَّ فَلَمْ تَكْدِمْ عَلَيْهِ بإثْمِدِ

وقد قٌرِىءَ ببعضِهَا شَاذًّا.
وللضَّمائِرِ تَقسيمٌ مُتَّسع لا يحتمله هذا الكتاب، وإنما يأتي في غُضُونِه ما يليقُ به.
و "نَعْبُدُ" فعلٌ مضارعٌ مرفوع؛ لتجردِه من الناصبِ والجازمِ، وقِيل: لوقوعِه موقعَ الاسمِ، وهذا رأْيُ البصريين.
ومعنى المضارع المشابه، يعني: أنه أشبه الاسمَ في حركاتِهِ، وسكناتِه، وعدَدَ حُرُوفِهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّ "ضَارِباً" يُشْبه "يَضْرِب" فيما ذكرت، وأنه يشيع ويختصُّ في الأزمانِ كما يشيعُ الاسمُ، ويختص في الأَشْخاصِ، وفَاعِلُهُ مستترٌ وُجُوباً لما مَرّ في الاستعاذة.
والعبادَةُ: غايةُ التذللِ، ولا يستحقُّها إلا مَنْ له غايةُ الإِفْضَالِ، وهو الباري - تعالى - وهو أبلغ من العُبُوديةِ؛ لأن العُبُودِيَِّة إظهار التذلُّلِ، ويُقالُ: طريقٌ مُعَبَّدٌ، أَيْ: مُذَلَّلٌ بالوطْء فيه. وقال طَرَفَة في ذلك: [الطويل]

66- تُبَارِي عِتَاقاً نَاجِيَاتٍ وَأُتْبِعَتْ وَظِيفاً وظيفاً فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ

ومنه: العَبْدُ؛ لِذلَّتِهِ، وبَعيرٌ معبَّدٌ: أَيْ مُذلَّلٌ بِالقَطِرَان.
وقيل: العبادةُ التَّجَرُّدُ، ويُقالُ: عَبَدْتُ اللهَ - بالتخفيف فقط - وعَبَّدْتُ الرجلَ - بالتشديدِ فقط، أَيْ: ذللتُه، واتخذتُه عبداً.
وفي قوله تعالى: "إِيَّاكَ نَعْبُد" التفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطَابِ، إِذْ لو جرى الكلامُ على أصله، لَقِيل: الحمد لله، ثم قيل: إِيَّاهُ نَعبدُ، والالتفاتُ: نوعٌ مِن البلاغَةِ.
قال ابنُ الخَطِيب -رحمه الله -: والفائدةُ في هذا الالتفاتِ وجوه:
أحدُها: أن المصلِّي كان أَجْنَبِيًّا عند الشروعِ في الصَّلاةِ، فلا جَرَمَ أَثْنَى على الله - تعالى - بألفاظ الغيبة، إلى قوله: "يَوْمِ الدِّينِ"، ثم إنه تعالى كأنه قال له: حَمَدْتَنِي وأَقْرَرْتَ بكونِي إلهاً، ربًّا، رحماناً، رحيماً، مالكاً ليوم الدين، فَنعْمَ العبدُ أنت، فرفعنا الحجابَ، وأبدلنا البُعدَ بالقُرْبِ، فتكلّم بالمخاطبة وقل: إياك نعبد.
الثاني: أنّ أحسنَ السؤالِ ما وقع على سبيلِ المُشَافَهَةِ، [والسبب فيه أن الردَّ مِنَ الكريمِ إذا سُئِل] على سبيل المشَافهة والمخاطبة بَعِيدٌ.
ومن الالتفَاتِ - إلاّ كونه عَكْسَ هذا - قولُه تبارك وتعالى:
{ { حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [يونس: 22] ولم يَقُلْ: "بكم"؛ وقد التفتَ امرؤ القَيْسِ ثَلاثَ التفاتاتٍ في قوله: [المتقارب].

67- تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بَالأَثْمُدِ وَنَامَ الخَلِيُّ وَلَمْ تَرْقُدِ
وَبَاتَ وبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ كَلَيْلَةِ ذِي العَائِرِ الأَرْمَدِ
وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءنِي وَخُبِّرْتُهُ عَن أَبِي الأَسْوَدِ

وقد خَطَّأَ بعضُهم الزمخشريَّ -رحمه الله تعالى - في جَعْلِه هذا ثَلاثةَ التفاتَاتٍ، وقال: بل هما التفاتان:
أحدُهما: خُروجٌ مِنَ الخطابِ المفتتح به في قولِهِ: "لَيْلُك"، إلى الغَيْبَةِ في قوله: "وبَاتَتْ له لَيْلَةٌ".
والثاني: الخروجُ من هذه الغيبةِ إلى التكلُّم، في قولِه: "مِنْ نَبَأ جَاءَنِي وخُبِّرْتُهُ".
والجوابُ: أَنَّ قولَه أَوّلاً: "تَطَاوَلَ لَيْلُك" فيه التفاتٌ؛ لأنه كان أصل الكلامِ أَنْ يقولَ: "تطاول لَيْلِي"؛ لأنه هو المقصودُ، فالتفتَ مِنْ مقامِ التكلُّمِ إلى مقامِ الخِطَابِ، ومن مقامِ الخِطَابِ إلى الغيبةِ، ثُمَّ مِنَ الغيبةِ إلى التكلُّمِ الذي هو الأصل.
وقُرِىءَ شاذًّا: "إِيَّاكَ يُعْبَدُ" على بنائِهِ للمفعول الغائبِ؛ ووجهُهَا على إِشْكالِهَا: أن فيها استعارةً والتفاتاً:
أما الاستعارةُ: [فإنه اسْتُعِير] فيها ضميرُ النصبِ لضمير الرفْعِ، والأصل: أنت تُعْبَد، وهو شائع؛ كقولِهم: "عَسَاكَ، وعَسَاهُ، وعَسَانِي" في أحدِ الأقوالِ؛ وقول الآخر: [الرجز]

68- يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ طَالَمَا عَصَيْكَا وَطَالَمَا عَنَّيْتَنَا إِلَيْكَا

فالكافُ في "عَصَيْكَا" نائبةٌ عن التاءِ، والأصل: "عَصَيْتَ".
وأما الالتفاتُ: فكان من حَقِّ هذا القارىء أَنْ يَقْرأَ: "إِيَّاكَ تُعْبَدُ" بالخطابِ، ولكنه التفت من الخطاب في "إِيَّاكَ" إلى الغَيْبَةِ في "يُعْبَدُ" إلاّ أن هذا الالتفاتَ غَرِيبٌ؛ لكونِهِ في جُمْلةٍ واحدةٍ، بخلاف الالتفاتِ المتقدّمِ؛ ونظيرُ هذا الالتفات قولُه: [الطويل]

69- أَأَنْتَ الهِلاَلِيُّ الَّذِي كُنْتَ مَرَّةً سَمِعْنَا بِهِ وَالأَرْحَبِيُّ المُغَلَّبُ

فقال: "بِهِ" بعد قوله: "أَنْتَ" و "كُنْتَ".
و "إيَّاكَ" واجبُ التقديم على عامله؛ لأَنَّ القاعدَةَ أَنَّ المفعولَ به إذا كان ضميراً - لو تأخر عم عامله - وجب اتصالُهَ وَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ.
وتَحَرَّزُوا بقولِهِم: "لو تأَخَّرَ عنه وجب اتصالُه"، من نحو: "الدرهم إياه أعطيتك" لأنك لو أخرتَ الضميرَ هنا فقلتَ: "الدِّرْهَمُ أَعْطَيْتُكَ إِيَّاهُ" لم يَلْزم الاتصالُ، لما سيأتي بل يجوزُ: "أعطيتكَهُ".
فصل في معنى العبادة
قال ابنُ الخَطِيبرحمه الله تعالى: العبادةُ عبارةٌ عن الفعل الذي يؤتى به لغرضِ تَعْظِيم الغَيْرِ، من قولهم: طريقٌ مُعبَّدٌ، أَيْ: مذلّلٌ، فقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، معناه: لا أعبد أحداً سواك، ويدلّ على هذا الحصر وجوه:
فَذَكَر من جملتها: تسميَة الله، والرب، والرحمن، والرحيم، ومالك يوم الدين، وكونَهُ قادراً بأن يُمْسِكَ السّماءَ بلا إعانة، وأَرْضاً بلا دِعَامة، ويُسَيِّرُ الشمسَ والقمر، ويسكن القُطْبَيْن، ويخرجُ من السَّماءِ تارة النَّارَ؛ وهو البرق، وتارة الهواءَ؛ وهو الريح، وتارة الماء؛ وهو المطر.
وأما في الأرضِ فتارةً يُخْرج الماء من الحَجَرِ؛ وتارةً يخْرج الحجرَ من الماء؛ وهو الجمد، ثم جعل في الأرض أجساماً مُقيمةً لا تسافر؛ [وهي الجبال]، وأجساماً مسافرة لا تقيم؛ وهي الأنهار، وخسف بقارون فجعل الأَرضَ فَوْقَهُ، ودفع محمداً - عليه الصلاة والسلام - إلى قَاب قَوْسَيْن، وجعل الماء ناراً لى قوم فرعون؛ لقوله:
{ { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [نوح: 25]، وجعل النارَ بَرْداً وسلاماً على إِبْرَاهِيمَ - عليه السلام - ورفع مُوسَى - عليه السلام - فوق الطُّورِ، وغرق الدنيا من التّنُّورِ، وجعل البحر يبساً لموسى - عليه الصلاة والسلام - فهذا من أداة الحَصْرِ.
والكلام في "إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" كالكَلاَمِ في "إِيَّاكَ نَعْبُدُ".
والواو: عاطِفَةٌ، وهي من المشتركةِ في الإعرابِ والمعنَى، ولا تقتضى تَرْتِيباً على قول الجمهور، خلافاً لطائفةٍ من الكُوفيينَ ولها أحكام تختص بها تأتي إن شاء الله تعالى.
وأصل "نَسْتَعِين": "نَسْتَعْوِنُ"؛ مَثْلُ: "نَسْتَخْرِجُ" في الصحيح؛ لأنه من العَوْنِ، فاسْتُثْقِلَتِ الكسرةُ على الوَاوِ، فنقلت إلى السَّاكن قَبْلَها، فسكنت الواوُ بعد النَّقْلِ وانكَسَر ما قبلها؛ فَقُلِبَتْ ياءً.
وهذه قاَعِدَةٌ مطّردَةٌ؛ نَحْوُ: "مِيزَان، ومِيِقَات"، وهما من: الوَزْنِ، والوَقْتِ.
والسِّينُ فيه معناها: الطلبُ، أَيْ نَطْلُبُ منك العونَ على العِبَادَةِ، وهو أحد المعاني التي لـ "استفعل" وله مَعََانٍ أُخَرٌ:
الاتخاذُ: نحو: "اسْتَعْبِدْهُ" أي: اتخذْهُ عبداً.
والتحولُ؛ نحو: "اسْتَحْجَرَ الطِّينُ" أَيْ: صار حجراً، ومنه قوله: "إِنَّ الْبُغَاثَ بأَرْضِنَا يَسْتَنْسِرُ" أي: تتحولُ إلى صفة النُّسور.
ووجُودُ الشَّيْءِ بمعنى ما صِيغَ منه؛ نحو: "اسْتَعْظَمَهُ" أَيْ: وجده عظيماً.
وعَدُّ الشَّيْء كذلك، وإِن لم يكُنْ؛ نحو: "اسْتَحْسَنَهُ".
ومطاوعةُ "أَفْعَل"؛ نحو: "أَشْلاَه فَاسْتَشْلَى".
وموافقتُه له أيضاً؛ نحو: "أَبَلَّ الْمَرِيضُ وَاسْتَبَلَّ".
وموافقةُ "تَفَعَّلَ"؛ نحو: "اسْتَكْبَرَ" بمعنى "تكبر".
وموافقةُ "افْتَعَلَ"؛ نحو: "اسْتَعْصَمَ" بمعنى "اعْتَصَمَ".
والإِغْنَاءُ عن المجرد؛ نحو: "اسْتَكَفّ" و "اسْتَحْيَا"، لم يتلفظ لهما بمجردِ استغناء بهما عنه.
والإِغْنَاءُ بهما عن "فَعَلَ" أي المجرد الملفوظ به نحو: "اسْتَرْجَعَ" و "استعان"، أَيْ: رجع وحَلَق عانته.
وقُرىءَ: "نِسْتَعينُ" بكسرْ حرف المضارعة؛ وهي لُغَةٌ مطردةٌ في حروف المُضَارعة.
وذلك بشرط ألا يكن حرفُ المضَارعة ياءً؛ لثقل ذلك، على أنَّ بعضَهُم قال: "ييجَلُ"، مضارع "وجَلَ"، وكأنه قصد إلى تَخْفِيفِ الواو إلى الياء، فكسر ما قبلها لتنقلب؛ وقد قُرِىء: "فإنَهم ييلَمُون" [النساء: 104]، وهي هادمةٌ لهذا الاستثناءِ، وسيأتي تحقيقُ ذلك في موضعه إِنْ شاء الله تعالى.
وأن يكون المُضَارعُ من ماضٍ مكسورِ العَيْن؛ نحو: "تِعْلَمُ" من "عَلِمَ"، أو في أوله همزةُ وصلٍ، نحو "نِسْتَعِينُ" من "اسْتَعَانَ"، أو تاءُ مُطَاوَعةٍ؛ نحو: "نِتَعَلَّمُ" من "تَعَلَّمَ"، فلا يجوزُ في "يضْربُ" و "يقتلُ" كسر حرف المُضَارعة؛ لعدم الشُّروط المذكورة.
والاستعانَةُ: طلبُ العَوْنِ: وهو المُظَاهرة والنصرة، وقدم العِبَادَةَ على الاسْتِعَانَةِ؛ لأنها وصلةٌ لطلب الحاجة.
وقال ابنُ الخَطِيبِ: كأنه يقولُ: شَرَعْتُ في العبادَةِ، فأستعين بك في إتمامها، فلا تمنعني من إتمامها بالمَوْتِ، ولا بالمرضِ، ولا بقلب الدَّواعي وتَغَيُّرِهَا.
وقال البَغَوِيُّ -رحمه الله تعالى - فإن قِيل: لم قدم ذِكْرَ العِبَادةِ على الاستعانَةِ، والاستعانةُ لا تكون إلاَّ قبل العبادة؟
قلنا: هذا يلزمُ من جَعَلَ الاستعانَة قبلَ الفعل، ونحن نَجْعلُ التوفِيقَ، والاستعانَة مع الفعل، فلا فرق بيت التقديم والتأخير.
وقيل: الاستعانَةُ نوعُ تعبُّدٍ، فكأنه ذكر جملة العبادَةِ أوّلاً، ثم ذكر ما هو من تفاصيلها وأطلق كُلاًّ من فِعْلَيْ العبادَةِ والاستعانَةِ فلم يذكر لهما مفعولاً؛ ليتناول كلَّ معبود به، وكلَّ مُسْتَعان [عليه]، أَوْ يكون المرادُ وقوعَ الفعلِ من غير نظر إلى مفعول؛ نحو:
{ { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } [البقرة: 60] أي أوقعوا هذين الفِعْلَيْنِ.
فصل في نظم الآية
قال ابنُ الخَطِيْبِ -رحمه الله تعالى -: قال تعالى: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ" فقدَّمَ قولَه: "إيَّاك" على قوله: "نعبد" ولم يقل: "نعبدك" لوجوه:
أحدُها: أنه - تبارك وتَعَالَى - قدّم ذِكْرَ نَفْسِهِ؛ لينبه العَابِدَ على أن المعبودَ هو اللهُ - تعالى - فلا يتكاسَلُ في التعظيم.
وثانيها: أَنَّه إِنْ ثقلت عليك العبادات والطاعات وصعبت، فَاذْكُرْ أوَّلاً قولَه: "إياك"؛ لتذكرني، وتحضر في قلبك معرفتي، فإذا ذكرتَ جَلاَلي وعظمتي، وعلمتَ أني مولاك، وأنك عبدي؛ سهلت عليك تلك العبادة.
وثالثها: أن القديمَ الواجبَ لذاتِه متقدمٌ في الوجودِ على لمحدث الممكن لذاته، فوجب أن يكون ذكره متقدماً على جميع الأذكار.
فصل في نون "نعبد"
قال ابنُ الخَطِيب -رحمه الله تعالى -: لقائلٍ أَنْ يقولَ: النُّون في قوله تعالى: "نعبد" إما أن تكون نونَ الجمع، أو نونَ العظمةِ، والأول باطِلٌ، لأن الشخصَ الواحدَ لا يكون جَمْعاً، والثاني باطل أيضاً؛ لأن عند أداء العبوديةِ، اللاَّئق بالإنسان أن يذكر نفسه بالعَجْز والذّلة لا بالعَظَمَةِ.
واعلم أنه يمكن الجوابُ عنه مِنْ وُجُوه:
أحدها: أنّ المرادَ مِنْ هذه النونِ نونُ الجَمْعِ، وهو تنبيه على أنَّ الأَوْلَى بالإنسان، أَنْ يؤدي الصَّلاة بالجماعة.
الثاني: أنَّ الرجلَ إِنْ كان يُصَلِّي في جماعة، فقوله: "نعبد"، المُرَاد منه ذلك الجمعُ، وإن كان يصلّي وحده كان المراد أني أعبدك، والملائكةُ معي.
الثالث: أنَّ المُؤْمِنين إخوةٌ، فلو قال: "إياك أعبدُ" كان قد ذكر عبادَةَ نفسِه، ولم يذكر عبادَةَ غَيْرِه، أما إذا قال: "إياك نعبدُ" كان قد ذكر عبادَة نفسِه، وعبادة جميع المؤمنين شرقاً وغرباً.