التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١١
وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٢
-يونس

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ... } الآية.
هذا الامتناعُ نفيٌ في المعنى، تقديره: لا يُعَجِّلُ الله لهم الشَّر، قال الزمخشري: "فإن قلت: كيف اتَّصل به قوله: { فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا }، وما معناها؟ قلت: قوله "وَلَوْ يُعَجِّلُ" متضمّن معنى نفي التَّعجيلِ، كأنَّه قيل: ولا نُعَجِّل لهم بالشَّرِّ، ولا نقضي إليهم أجلهم".
قوله "ٱسْتِعْجَالَهُمْ" فيه أوجهٌ:
أحدها: أنَّه منصوبٌ على المصدر التَّشبيهيِّ، تقديره: استعجالاً مثل استعجالهم، ثُمَّ حذف الموصوف، وهو "اسْتِعْجَال"، وأقام صفته مقامه، وهي "مِثل"، فبقي: ولو يعجِّل الله مثل استعجالهم، ثم حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، قال مكِّي: "وهذا مذهبُ سيبويه"، وقد تقدَّم مراراً أنَّ مذهب سيبويه في هذا، أنَّه منصوبٌ على الحالِ من ذلك المصدرِ المُقدَّرِ، وإن كان مشهورُ أقوالِ المُعْربين غيره، ففي نسبةِ ما ذكرناه أولاً لسيبويه نظرٌ.
والثاني: أن تقديره: تعجيلاً مثل استعجالهم، ثم فعل به ما تقدَّم قبله، وهذا تقديرُ أبي البقاء، فقدَّر المحذوف مطابقاً للفعل الذي قبلهُ؛ فإنَّ "تَعْجِيلاً" مصدر لـ "عَجّلَ"، وما ذكره مكِّي موافقٌ للمصدر الذي بعده.
والذي يظهر؛ ما قدَّره أبو البقاء؛ لأنَّ موافقة الفعل أولى، ويكون قد شبَّه تعجيله تعالى باستعجالهم، بخلاف ما قدَّره مكِّي، فإنَّه لا يظهر؛ إذ ليس "اسْتِعْجَال" مصدراً لـ "عَجَّل"، وقال الزمخشري: "أصله: ولو يعجِّل الله للنَّاس الشرَّ تعجيله لهم الخير، فوضع "اسْتِعْجَالهُم بالخَيْرِ" موضع تعجيله لهم الخيرَ؛ إشعاراً بسُرعةِ إجابته لهُمْ وإسعافه بطلبهم، كأنَّ استعجالهُم بالخير تعجيلٌ لهُم"، قال أبو حيَّان: "ومدلُولُ "عَجَّل" غير مدلول "اسْتَعْجَل"؛ لأنَّ "عَجَّل" يدلُّ على الوقوع، و "اسْتَعْجَل" يدلُّ على طلب التَّعجيل، وذلك واقعٌ من الله - تعالى -، وهذا مضافٌ إليهم، فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري، فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون التقدير: تَعْجِيلاً مثل استعجالهم بالخير، فشبَّه التَّعجيل بالاستعجالِ؛ لأنَّ طلبهم للخَيْر، ووقوع تعجيله مقدَّمٌ عندهم على كلِّ شيء.
والثاني: أن يكون ثمَّ محذوفٌ يدلُّ عليه المصدر تقديره: ولو يُعَجِّل اللهُ للنَّاسِ الشرَّ، إذا استعجلوا به اسْتعْجَالهُم بالخير؛ لأنَّهم كانوا يَسْتَعْجِلُون بالشرِّ ووقوعه على سبيل التَّهكم، كما كانُوا يَسْتعجلُون بالخير".
الثالث: أنَّه منصوبٌ على إسقاط الخافض، وهو كاف التَّشبيه، والتقدير: كاستعجالهم.
قال أبُو البقاء: "وهو بعيدٌ؛ إذ لو جاز ذلك، لجاز "زيدٌ غلام عمرو" أي: كغلام عمرو". وبهذا ضعَّفهُ جماعةٌ، وليس بتضعيفٍ صحيحٍ؛ إذ ليس في المثال الذي ذكر فعلٌ يتعدَّى بنفسه عند حذف الجارِّ، وفي الآية فعلٌ يَصِحُّ فيه ذلك، وهو قوله: "يُعَجل"، وقال مكِّي: "ويَلزَمُ مَنْ يجُوِّز حذفَ حرفِ الجر منه، أن يُجيز "زيدٌ الأسدُ"، أي: كالأسد".
قال شهابُ الدِّين: "قوله: ويَلْزَمُ.. إلى آخره"، لا رَدَّ فيه على هذا القائل، إذ يلتزمه، وهو التزامٌ صحيحٌ سائغٌ؛ إذ لا يُنكِرُ أحَدٌ "زيدٌ الأسد"، على معنى: كالأسَد، وعلى تقدير التَّسليم، فالفرقُ ما ذكره أبو البقاء، أي: إنَّ الفعل يطلب مصدراً مُشَبَّهاً، فصار مدلُولاً عليه.
وقال بعضهم: تقديره: في استعجالهم؛ نقله مكِّي، فلمَّا حذفت "في" انتصبَ، وهذا لا معنى له، وقال البغوي: المعنى "ولو يُعَجِّل الله إجابة دعائهم في الشرِّ والمكروه استعجالهم بالخير، أي: كما يحبُّون استعجالهم بالخير".
وقال القرطبي: قال العلماء: التَّعجيلُ من الله، والاستعجال من العبدِ، وقال أبو عليّ: هُمَا من الله.
فصل
في كيفية النَّظم وجوه:
أحدها: قال ابن الخطيب: "إنَّه ابتدَأ السورة بذكر شُبُهَاتِ المنكرينَ للنُّبوَّة مع الجواب عنها:
فالشبهة الأولى: أنَّ القوم تعجَّبُوا من تخصيص الله محمداً بالنُّبوة، فأزال الله ذلك التعجُّب بقوله:
{ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ } [يونس:2]، ثم ذكر دلائل التَّوحيدِ، ودلائل صحَّة المعاد.
وحاصل الجواب أن يقول: إنِّي ما جئتُكُم إلاَّ بالتوحيد، والإقرار بالمعاد، وقد دَلَّلنا على صحتهما، فلمْ يَبْقَ للتعجُّب من نبوَّتِي معنى.
والشبهة الثانية: أنَّهم كانوا يقولون: اللَّهُمَّ إن كان ما يقول محمدٌ حقاً في ادِّعاء النُّبوَّة والرٍِّسالة، فأمطر علينا حجارة من السَّماء، أو ائتِنَا بعذابٍ أليمٍ، فأجاب الله - تعالى - عن هذه الشبهة بهذه الآية.
وثانيها: قال القاضي: "لمَّا بيَّن الله - تعالى - الوعْد والوعِيدَ، أتبعهُ بما يدلُّ على أن من حقِّهما، أن يتأخَّرا عن هذه الحياة الدُّنيويَّة؛ لأنَّ حصولهما في الدُّنيا، كالمانع من بقاءِ التَّكليف.
وثالثها: قال القفال: إنَّه لمَّا وصف الكفار بأنهم لا يرجون لقاء الله، ورضوا بالحياةِ الدُّنيا، واطمأنوا بها، وكانُوا عن آيات الله غافلين، بيَّن أنَّ من غفلتهم، أنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - متى أنذرهم استعجلوا العذاب جهلاً منهم وسفهاً.
فصل
أخبر - تعالى - في آيات كثيرة: أنَّ هؤلاء المشركين متى خُوفوا بنزول العذاب في الدُّنيا، استعجلوا ذلك العذاب، كقولهم:
{ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال:32]، وقوله تعالى: { { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } [المعارج:1] الآية، ثم إنهم لما توعدوا بعذاب الآخرة في هذه الآية، بقوله { { أُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [يونس:8]، استعجلوا ذلك العذاب، وقالوا متى يحصل ذلك؟ كما قال - تعالى -: { يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } [الشورى:18]، وقال بعد هذه الآية، في هذه السورة: { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [يونس:48]؛ إلى قوله { { الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } [يونس:51] وقال - تعالى - في سورة الرعد: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلاَتُ } [الرعد:6].
فبيَّن - تعالى - أنه لا مصلحة في تعجيل إيصال الشرّ إليهم؛ لأنه - تعالى - لو أوصل ذلك إليهم لماتوا، لأن تركيبهم في الدنيا لا يحتمل ذلك ولا صلاح في إماتتهم، فربما آمنُوا بعد ذلك، أو خرج من صلبهم من يؤمن، وذلك يقتضي ألاَّ يُعَاجلهُم الله بإيصال الشرِّ إليهم.
وسمى العذاب شرّاً؛ لأنه أذى في حقِّ المعاقب، كما سماه سيئة في قوله:
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ } [الرعد:6]، وفي قوله: { { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى:40].
والمراد من استعجالهم الخير: أنَّهم كانوا عند نزول الشدائد يدعون الله بكشفها؛ لقوله:
{ { إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [النحل:53]، { { فَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا } [الزمر:49].
قوله: "لقُضِيَ" قرأ ابنُ عامر: "لقَضَى" بفتح القاف مبنياً للفاعل، "أجلهم" بالنصب مفعولاً، والباقون: بالضمِّ والكسر مبنياً للمفعول، "أجلهم" رفعاً لقيامه مقام الفاعل، وقرأ الأعمش، ويعقوب، وعبد الله: "لقَضَيْنَا" مسنداً لضمير المُعَظِّم نفسه، وهي مؤيِّدةٌ لقراءةِ ابنِ عامرِ.
فصل
معنى { لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } أي: لفرغ من هلاكهم ولماتُوا جميعاً، وقيل: إنَّها نزلت في النَّضر بن الحارث، حين قال:
{ { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ } [الأنفال:32] الآية. قوله: { فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ } فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّه معطوفٌ على قوله: "ولوْ يُعجل اللهُ"، على معنى أنَّه في قُوَّة النَّفي، وقد تقدَّم تحقيقه في سؤال الزمخشري، وجوابه فيه، إلاَّ أنَّ أبا البقاء ردَّ عطفه على "يُعَجِّلُ"، فقال: "ولا يجُوزُ أن يكون معطوفاً على "يُعَجِّلُ"؛ إذ لو كان كذلك لدخل في الامتناع الذي تقتضيه "لَوْ"، وليس كذلك؛ لأنَّ التعجيل لم يقع، وتركهم في طغيانهم وقع".
قال شهاب الدِّين: "إنَّما يتمُّ هذا الرَّدُّ، لو كان معطوفاً على "يُعَجِّلُ" فقط، باقياً على معناه، وقد تقدَّم أنَّ الكلام صار في قُوَّة: لا نُعجل لهم الشَّرَّ: فنذرهم، فيكون "فَنَذَرُهُم" معطوفاً على جملة النَّفي، لا على الفعل الممتنع وحده، حتَّى يلزم ما قال".
والثاني: أنَّه معطوفٌ على جملةٍ مقدَّرة: أي: ولكن نمهلهم فنذر، قالهُ أبو البقاء.
والثالث: أن تكون جملة مستأنفة، أي: فنحنُ نذر الذين؛ قاله الحوفي.
فصل
المعنى: { فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا }: لا يخافون البعث، والحساب { في طغيانهم يَعْمهُونَ }.
قال أهل السنة: إنَّه - تعالى - لمَّا حكم عليهم بالطُّغيان والعمه، امتنع أن لا يكونوا كذلك، وإلا لزم أن يَنْقَلِبَ خبر الله تعالى الصِّدق كذباً، وعلمهُ جهلاً، وحكمه باطلاً، وكلّ ذلك محالٌ.
قوله تعالى: { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ }: الجهد والشدة { دَعَانَا لِجَنبِهِ } أي: على جنبه مضطجعاً { أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } يريد في جميع حالاته؛ لأنَّ الإنسان لا يعدُو إحدى هذه الحالات، وفي كيفية النظم وجهان:
الأول: أنه تعالى لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّه لو أنزل العذاب على العبد في الدُّنيا، لهلك ولقُضِيَ عليه؛ فبيَّن في هذه الآية ما يدُلُّ على ضعفه، ونهاية عجزه؛ ليكون ذلك مؤكداً لما ذكره، من أنَّه لو أنزل عليه العذاب لمات.
الثاني: أنه - تعالى - حكى عنهم: أنَّهُم يستعجلُون نُزُول العذاب، فبيَّن في هذه الآية، أنَّهم كاذبُون في ذلك الاستعجال؛ لأنَّه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يُؤذيه، فإنَّه يتضرَّعُ في إزالته عنه، فدلَّ على أنَّهُ ليس صادقاً في هذا الطَّلب.
قوله: "لِجَنْبِهِ" في محلِّ نصبٍ على الحال؛ ولذلك عطف الحال الصَّريحة عليه، والتقدير: دعانا مضطجعاً لجنبه، أو مُلْقياً لجنبه، واللاَّمُ على بابها عند البصريين، وزعم بعضهم: أنَّها بمعنى: "عَلَى"، ولا حاجة إليه، واختلف في صاحب الحال: فقيل: الإنسان والعامل فيها "مسَّ"، قاله ابن عطية، ونقله أبو البقاء عن غيره، واستضعفه من وجهين:
أحدهما: أنَّ الحال على هذا واقعةٌ بعد جواب "إذا"، وليس بالوجه، كأنه يعني: أنَّه ينبغي ألاَّ يجاب الشَّرطُ، إلاَّ إذا استوفى معمولاته، وهذه الحال معمولةٌ للشرط، وهو "مسَّ"، وقد أجيب قبل أن يستوفي معموله.
ثم قال: "والثاني: أن المعنى: كثرةُ دعائه في كلِّ أحواله، لا على أن الضُّرَّ يُصيبُهُ في كل أحواله، وعليه جاءت آياتٌ كثيرةٌ في القرآن"، وقال أبو حيَّان: "وهذا الثاني يلزم فيه من مسِّه الضُّرَّ، دعاؤه في هذه الأحوال؛ لأنَّه جوابُ ما ذكرت فيه هذه الأحوال، فالقَيْدُ في الشرط قيدٌ في الجواب، كما تقول: إذا جاءنا زيدٌ فقيراً أحْسَنَّا إليه، فالمعنى، أحْسَنَّا إليه في حال فَقْرِه".
وقيل: صاحبُ الحال هو الضمير الفاعل في "دعانا"، وهو واضحٌ، أي: دعانا في جميع أحواله؛ لأنَّ هذه الأحوال الثلاثة لا يخلو الإنسان عن واحدةٍ منها.
فصل
قيل: المراد بـ "الإنسان" هنا: الكَافِر.
وقيل: أبو حذيفة بن المغيرة، تصيبه البأساء والشدة والجهد، { دَعَانَا لِجَنبِهِ } أي: على جنبه مضطجعاً { أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } وإنَّما أرادَ تسمية حالاته؛ لأنَّ الإنسانَ لا يعدُو هذه الحالات.
وقيل: وإنَّما بدأ بالمضطجع؛ لأنَّه بالضُّر أشدّ في غالب الأمْرِ، فهو يدعُو أكثر، والاجتهاد فيه أشدّ، ثمَّ القاعد ثم القَائم.
وقيل: المراد بالإنسان: الجنسُ، وهذه الأحوال بالنسبة إلى المجموع، أي: مِنْهم من يدعُو مُسْتلقياً، ومنهم مَنْ يدعُو قَائِماً، أو يرادُ به شخصٌ واحدٌ، جمع بين هذه الأحوال الثلاثة بحسب الأوقات، فيدعو في وقت على هذه الحال، وفي وقت على أخرى، والصحيحُ أنَّ المراد بـ "الإنسان": الجنس، وقال آخرون: كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد به: الكافر، وهذا باطل؛ لقوله:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } [الإنشقاق:6، 7] لا شبهة في أنَّ المؤمنَ داخلٌ، وكذا قوله: { { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ } [الإنسان:1]، وقوله: { { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [المؤمنون:12]، { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } [ق:19]، والحقُّ: أنَّ اللفظ المفرد، المحلَّى بالألف واللام، إن حصل معهودٌ سابقٌ، صرف إليه، وإن لم يحصل معهودٌ سابقٌ، حمل على الاستغراق صوناً له عن الإجمال والتَّعطيل، وقال صاحبُ النَّظْم: قوله { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ } وضعهُ للمستقبل، وقوله: { فَلَمَّا كَشَفْنَا } للماضي، فهذا النَّظْمُ يدلُّ على أنَّ معنى الآية يدل: على أنَّهُ كان هكذا فيما مضى، وهكذا يكون في المستقبل، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل، وما فيه من الماضي، على الماضي".
قوله: { كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ } قد تقدَّم الكلامُ على مثل هذا، عند قوله:
{ { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ } [النساء:73]، تقديره: كأنَّه لم يدعنا، ثم أسقط الضمير تخفيفاً، كقوله تعالى { { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوۤاْ } [يونس:45] قال الزمخشري: "فحذف ضمير الشَّأن؛ كقوله: [الهزج]

2880-........................... كأنْ ثَدْيَاهُ حُقَّانِ"

يعني: على رواية من رواه "ثَدْياهُ" بالألف، ويروى: "كأن ثَدْيَيه" بالياء، على أنها أعملت في الظَّاهر، وهو شاذٌّ، وهذا البيت صدره: [الهزج]

2881- وَوجهٍ مُشْرقِ النَّحْرِ كَأنْ ثدْيَاهُ حقَّانِ

وهذه الجملةُ التَّشبيهيَّةُ: في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل "مرَّ"، أي: مضى على طريقته، مشبهاً من لم يدعُ إلى كشف ضُرٍّ، و "مسَّهُ" صفةً لـ "ضُرّ"، وقيل: "مَرَّ" عن موقف الابتهال والتضرُّع لا يرجع إليه، ونسي ما كان فيه من الجهدِ والبلاء، كأن لم يدعنا، ولم يطلُب منَّا كشف ضُرِّه.
قوله: { كَذٰلِكَ زُيِّنَ } الكاف من "كذلِكَ" في موضع نصب على المصدر، أي: مثل ذلك التَّزيين والإعراض عن الابتهال، وفاعل "زُيِّنَ" المحذوف: إمَّا الله - تعالى -، و إمَّا الشيطان، و { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } في محل رفع لقيامه مقام الفاعل، و "مَا" يجوز أن تكون مصدريَّة، وأن تكون بمعنى "الذي".
فصل
قال أبو بكر الأصم: سُمّي الكافرُ مُسْرفاً؛ لأنَّه ضيَّع ماله ونفسه، أمَّا النَّفس، فإنه جعلها عبداً للوثن؛ وأمَّا المالُ؛ فلأنهم كانوا يُضَيِّعُون أموالهم في البحيرة، والسَّائبة، والوصيلة والحامِ.
وقيل: من كانت عادتُه كثرة التضرُّع والدعاء، عند نزول البلاء، وعند زوال البلاء بعرضُ عن ذكرِ الله وعن شكره، يكون مُسْرِفاً في أمر دينه، وقال ابن الخطيب: "المُسرفُ هو الذي ينفقُ المال الكثير؛ لأجل الغرضِ الخسيس، ومعلومٌ أنَّ لذَّاتِ الدنيا وطيباتها خسيسةٌ جداً، في مقابلة سعادات الآخرة، والله - تعالى - أعطى الحواسَّ، والعقل والفهم، والقدرة، لاكتساب السعادات العظيمة الأخرويَّة، فمن بذل هذه الآلات العظيمة الشريفة؛ ليفوز بالسعادات الخسيسة، كان قد أنفق أشياء عظيمة؛ ليفوز بأشياء حقيرة؛ فوجب أن يكون من المسرفين".