التفاسير

< >
عرض

قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ ٱللَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ
٣٤
قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
٣٥
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ
٣٦
-يونس

اللباب في علوم الكتاب

قوله - تعالى - { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } الآية. هذه هي الحجَّة الثانية عليهم.
فإن قيل: القوم كانوا منكرين الإعادة، والحشر، والنشر، فكيف احتجَّ عليهم بذلك؟
فالجواب: أنَّه - تعالى - قدَّم في هذه السورة ما يدلُّ عليه، وهو وجوب التمييز بين المُحْسِن والمُسيءِ، وهذه الدَّلالة دلالةٌ ظاهرةٌ قويَّة، لا يمكن للعاقل دفعها؛ فلأجْلِ قُوَّتها، وظهورها تمسَّك بها، سواء الخَصْم عليها، أو لا.
فإن قيل: لِمَ أمر رسوله أن يعترف بذلك، والإلزام إنَّما يحصلُ لو ا عترف الخصمُ به؟.
فالجوابُ: أنَّ الدَّليل لمَّا كان ظاهراً جليّاً، فإذا أورد على الخَصْم في معرض الاستفهام، كأنَّه بنفسه يقول: الأمر كذلك، فكان هذا تنبيهاً، على أنَّ هذا الكلام بلغ في الوُضوح، إلى حيث لا حاجة فيه إلى إقرار الخصم به، وأنَّه سواء أقرَّ، أو أنكَرَ، فالأمرُ متقرِّر ظاهرٌ.
قوله: { قُلِ ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ }: هذه الجملةُ جوابٌ لقوله: { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ }، وإنَّما أتى بالجواب جملة اسمية، مصرَّحاً يجزأيها، مُعَاداً فيها الخبر، مطابقاً لخبر اسم الاستفهام؛ للتأكيد، والتَّثبيتِ، ولمَّا كان الاستفهام قبل هذا، لا مندوحة لهُم عن الاعتراف به، جاءت الجملةُ محذوفاً منها أحدُ جزأيها، في قوله:
{ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُ } [يونس:31]، ولم يَحْتَجْ إلى التَّأكيد بتصريح جزأيها.
فصل
قال القرطبيُّ: ومعنى الآية: { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ } ينشئه من غير أصل، ولا سبق مثال: "ثُمَّ يُعِيدُهُ": يُحْييه بعد الموت كهَيْئتِهِ، فإن أجابُوك، وإلاَّ فـ { قُلِ ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ }، ثم قال: { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } أي: تصرفون عن قصد السَّبيل، والمُراد: التَّعجُّب منهم في الدُّنْيَا من هذا الأمر الواضح الذي دعاهُم الهوى والتَّقليد إلى مخالفته؛ لأنَّ الإخبار عن كون الأوثان آلهةً كذب، وإفكٌ الاشتغال بعبادتها، مع أنَّها لا تستحق العبادة أيضاً إفكٌ.
قوله تعالى: { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ } الآية.
وهذه حجَّة ثالثة. واعلم أنَّ الاستدلالَ على وجودِ الصَّانع بالخلق أولاً، ثم بالهداية ثانياً، عادة مُطَّردة في القرآن، قال - تعالى - حكاية عن الخليل عليه الصلاة والسلام:
{ { ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [الشعراء:78]، وحكى عن موسى - عليه الصلاة والسلام - في جوابه لفرعون: { { رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [طه:50]، وأمر محمَّداً - عليه الصلاة والسلام - فقال: { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [الأعلى:1-3].
واعلم أنَّ الإنسان له جسدٌ وروحٌ، فالاستدلال على وجود الصَّانع بأحوال الجسد، هو الخلق، والاستدلال بأحوال الرُّوح، هو الهدايةُ.
والمقصودُ من خلق الجسدِ: حصول الهداية للرُّوح، كما قال - تعالى -:
{ { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل:78]، وهذا كالتَّصريح بأنَّه تعالى إنَّما خلق الجسد، وأعطى الحواسّ؛ لتكون آلة في اكتساب المعارف، والعلم.
قوله: { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ }، قد تقدَّم في أول الكتاب: أنَّ "هَدَى" يتعدَّى إلى اثنين ثانيهما: إمَّا باللاَّم أو بإلى، وقد يحذفُ الحرفُ تخفيفاً [الفاتحة:6]، وقد جمع بين التعديتين هنا بحرف الجر، فعدَّى الأول والثالث بـ "إلى"، والثاني باللاَّم، وحذف المفعول الأول من الأفعال الثلاثة، والتقدير: هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق، قل الله يهدي من يشاء للحقِّ، أفمنْ يهدي غيره إلى الحقِّ، وزعم الكسائي، والفرَّاء، وتبعهما الزمخشري: أنَّ "يَهْدِي" الأول قاصرٌ، وأنَّه بمعنى: اهتدى، وفيه نظر؛ لأنَّ مقابله، وهو { قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ } متعدٍّ، وقد أنكر المبرِّدُ أيضاً مقالة الكسائي، والفراء، وقال: لا نَعْرِفُ "هَدَى" بمعنى: "اهتدى".
قال شهاب الدِّين "الكسائي والفرَّاء أثبتاه بما نقلاه، ولكن إنَّما ضعف ذلك هنا؛ لما ذكرتُ لك من مقابلته بالمتعدِّي، وقد تقدَّم أنَّ التعدية بـ "إلى" أو اللاَّم، من باب التَّضمن في البلاغة، ولذلك قال الزمخشري: "يقال: هداه للحقِّ وإلى الحقِّ، فجمع بين اللغتين"، وقال غيره: "إنَّما عدَّى المسند إلى الله باللاَّم؛ لأنَّها أدلُّ في بابها على المعنى المراد من "إلى"؛ إذ أصلها لإفادة الملك، فكأنَّ الهداية مملوكةٌ لله - تعالى -". وفيه نظر؛ لأنَّ المراد بقوله: { أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ } هو الله - تعالى -، مع تعدِّي الفعل المسند إليه بـ "إلى".
قوله: { أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ }: خبرٌ لقوله: "أَفَنْ يَهْدِيۤ"، و "أنْ" في موضع نصبٍ، أو جرٍّ بعد حذف الخافض، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، وتقدير هذا كلّه: أفمن يهدي إلى الحقِّ أحقُّ بأن يُتَّبَع ممَّن لا يهدي. ذكر ذلك مكِّي بن أبي طالب، فجعل "أحَقُّ" هنا على بابها من كونها للتفضيل، وقد منع أبو حيَّان كونها للتَّفضيل، فقال: و "أحَقُّ" ليست للتفضيل، بل المعنى: "حَقيقٌ بأن يُتَّبع"، وجوَّز مكِّي أيضاً في المسألة وجهين آخرين:
أحدهما: أن تكون "مَنْ" مبتدأ أيضاً، و "أنْ" في محلِّ رفعٍ، بدلاً منها بدل اشتمال، و "أحَقُّ" خبرٌ على ما كان.
والثاني: أن يكون "أنْ يُتَّبَع" في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و "أحَقُّ" خبره مقدَّمٌ عليه. وهذه الجملة خبر لـ "مَنْ يَهْدِي"، فتحصَّل في المسألة ثلاثة أوجُه.
قوله: { أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ }: نسقٌ على "أفَمَنْ"، وجاء هنا على الأفصح، مِنْ حيث إنَّهُ قد فصل بين "أمْ" وما عُطفتْ عليه بالخبر، كقولك: أزَيْدٌ قائمٌ أم عمرو، ومثله:
{ { أَذٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ ٱلْخُلْدِ } [الفرقان:15]، وهذا بخلاف قوله - تعالى -: { أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } [الأنبياء:109] وسيأتي هذا في موضعه، وقرأ أبو بكر عن عاصمٍ: بكسر ياء "يهدِّي" وهائه، وحفص بكسر الهاء دون الياء، فأما كسر الهاء؛ فلالتقاء الساكنين، وذلك أنَّ أصله "يَهْتَدِي"، فلمَّا قُصِدَ إدغامُه سكنتِ التاء، والهاءُ قبلها ساكنة، فكسرت الهاءُ لالتقاء الساكنين، وأبو بكر أتبع الياء للهاء في الكسر، وقال أبو حاتم: في قراءة حفصٍ "هي لغة سُفْلَى مُضَرَ".
ونقل عن سيبويه: أنَّه لا يجيز "يِهْدِي"، ويجيز "تِهْدِي، وإهْدِي"، قال: "لأنَّ الكسرة تثقلُ في الياء"، يعني: أنَّه يُجيز كسر حرفِ المضارعة من هذا النَّحو، نحو: تِهْدِي ونِهْدِي وإِهْدِي، إذ لا ثقل في ذلك، ولم يجزهُ في الياء؛ لثقل الحركة المجانسةِ لها عليها، وهذا فيه غضٌّ من قراءة أبي بكرٍ، لكنه قد تواتر قراءة، فهو مقبولٌ، وقرأ أبو عمرو وقالون، عن نافعٍ: بفتح الياء، واختلاس فتحة الهاء، وتشديد الدَّال، وذلك أنَّهُمَا لمَّا ثقَّلا الفتحة للإدغام، اختلسا الفتحة؛ تنبيهاً على أنَّ الهاءَ ليس أصلها الحركة، بل السُّكون، وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وورش: بإكمال فتحة الهاء على أصل النقل، وقد رُوي عن أبي عمرو، وقالوا: اختلاسُ كسرةِ الهاءِ، على أصل التقاء الساكنين، والاختلاسُ للتنبيه على أنَّ أصل الهاءِ السُّكون كما تقدَّم، وقرأ أهلُ المدينة - خلا ورشاً - بفتح الياء وسكون الهاء وتشديد الدَّال، وهذه القراءةُ استشكلها جماعةٌ من حيث الجمع بين السَّاكنين، قال المبرد: "مَنْ رَامَ هذا، لا بد أن يحرك حركة خفيَّة" قال أبو جعفر النَّحاس: لا يقدر أحدٌ أن ينطقَ به. قال شهاب الدِّين: "وقد قال في التيسير: "والنَّصُّ عن قالون بالإسكان"، قلت: ولا بعد في ذلك؛ فقد تقدَّم أنَّ بعض القُرَّاء يَقْرَأ { نِعْمَّا } [النساء:58] و { لاَ تَعْدُواْ } [النساء:154] بالجمع بين الساكنين، وتقدَّمت لك قراءاتٌ كثيرة، في قوله { يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } [البقرة:20]، وسيأتي مثل هذا في { يَخِصِّمُونَ } [يس:49].
وقرأ الأخوان "يَهْدِي" بفتح الياء، وسكون الهاء، وتخفيف الدال، من هدى يَهْدي، وفيه قولان:
أحدهما: أنَّ "هَدَى" بمعنى: اهتدى.
والثاني: أنَّه متعدٍّ، ومفعوله محذوفٌ كما تقدَّم، وتقدم في قول الكسائي، والفرَّاء في ذلك، وردُّ المبرد عليهما.
وقال ابن عطيَّة: "والذي أقول: قراءةُ حمزة، والكسائيُّ؛ تحتمل أن يكون المعنى: أمْ مَنْ لا يهدي أحداً، إلاَّ أنْ يهدى ذلك الأحدُ بهداية الله، وأمَّا على غيرها من القراءات التي مقتضاها: أمْ مَنْ لا يهتدي، إلاَّ أنْ يُهْدَى. فيتجه المعنى على ما تقدَّم"، ثم قال: "وقيل: تمَّ الكلامُ عند قوله: "أمْ مَنْ لا يَهِدِّي"، أي: لا يهدِّي غيره"، ثم قال: "إلاَّ أنَّ يَهْدَى: استثناءٌ منقطع، أي: لكنه يحتاجُ إلى أن يُهْدَى، كما تقول: فلانُ لا يسمع غيره، إلاَّ أنْ يسمع، أي: لكنَّه يحتاجُ إلى أن يسمع". انتهى، ويجوز أن يكون استثناءً متصلاً؛ لأنَّه إذ ذاك يكون فيهم قابليَّةُ الهداية، بخلافِ الأصنام، ويجوز أن يكون استثناء من تمامِ المفعول له، أي: لا يهدي لشيءٍ من الأشياء، إلاَّ لأجْل أن يُهْدَى بغيره.
قوله: "فَمَا لَكُمْ": مبتدأ وخبر، ومعنى الاستفهام هنا: الإنكارُ والتعجُّبُ، أي: أيُّ شيءٍ لكم في اتِّخاذ هؤلاء؛ إذا كانوا عاجزين عن هداية أنفسهم، فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم؟ وقد تقدَّم: أنَّ بعض النحويين نصَّ على أنَّ مثل هذا التركيب، لا يتمُّ إلاَّ بحالٍ بعده، نحو:
{ فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [المدثر:49]، { { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ } [المائدة:84] إلى غير ذلك، وهنا لا يمكن أن تقدَّر الجملةُ بعد هذا التركيب حالاً؛ لأنَّها استفهاميَّة، والاستفهاميَّة لا تقع حالاً.
وقوله: { كَيْفَ تَحْكُمُونَ }: استفهامٌ آخر، أي: كيْفَ تحكمُونَ بالباطل، وتجعلُون لله أنْداداً، وشُركاء؟.
فصل
المعنى: { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ }: يرشد، "إِلَى ٱلْحَقِّ" فإذا قالوا: لا، ولا بدَّ لهم من ذلك { قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ } أي: إلى الحقِّ { أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدِّيۤ إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ } أي: الله الذي يهدي إلى الحقِّ أحق بالاتِّباع، أم الصَّنم الذي لا يهتدي، إلاَّ أنْ يُهْدَى؟ فإن قيل: الأصنام جمادات لا تقبل الهداية، فكيف قال: { إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ }، والصَّنَمُ لا يتصوَّر أن يهتدي، ولا أنْ يُهْدَى؟
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنَّ المراد من قوله: { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } الأصنام، والمراد من قوله: { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ }: رؤساء الكفر، والضلال، والدعاة إليهما؛ لقوله - تعالى -:
{ ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [التوبة:31] إلى قوله: { سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [التوبة:31] أي: أن الله - تعالى - هدى الخلق إلى الدِّين، بالدَّلائل العقليَّة، والنقليَّة، وهؤلاء الدُّعاة لا يقدرون أن يهدُوا غيرهم، إلاَّ إذا هداهم الله، فكان التَّمسك بدين الله، أولى من قُبُول قول هؤلاء الجهال.
وثانيها: أن معنى الهداية في حقِّ الأصنامِ: الانتقال، والهدى: عبارة عن النَّقل والحركة، يقال: أهديت المرأة إلى زوجها، إذا انتقلت إليه، والهَدْيُ: ما يُهْدى إلى الحرم من النَّعَم، وسميت الهديَّةُ هديَّة؛ لانتقالها من شخص إلى غيره، وجاء فلان يهادى بين رجلين، إذا كان يمشي مُعْتمداً عليهما؛ لضعفه وتمايله. وإذا ثبت ذلك فالمرادُ: أنَّه لا ينتقل من مكان إلى مكان، إلاَّ أن يحمل وينقل بين عجز الأصنام.
وثالثها: أنه ذكر الهداية على وجه المجاز؛ لأنَّ المشركينَ لمَّا اتَّخذُوا الأصنام آلهةً، وأنَّها لا تشفع لهم في الآخرة، وأنَّهم نزَّلُوها منزلة من يعقل، فلذلك عبَّر عنها كما يُعبَّر عمَّن يعلم ويعقل.
ورابعها: أنْ يُحْمل على التقدير، أي: أنَّها لو كانت بحيث يمكنها أن تهدي، فإنَّها لا تهدي غيرها، إلاَّ بعد أن يهديها غيرها، ثم قال: { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } أي: تَقضُون، حين زعمتُم: أنَّ للهَ شريكاً.
قوله: { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً } الآية.
أي: يقولون إنَّ الأصنامَ آلهة، وأنَّها تشفع لهم في الآخرة، "ظَنّاً": لمْ يردْ به كتابٌ ولا رسولٌ. وأراد بالأكثر، جميع من يقول ذلك.
وقيل: وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله إلاَّ ظنّاً؛ لأنَّه قولٌ غير مسندٍ إلى برهانٍ عندهم، بل سمعُوه من أسلافهم، وهذا القول أولى؛ لأنَّا في الأول نحتاج إلى أن نُفَسِّر الأكثر بالكُلِّ.
قوله: "لاَ يُغْنِي": خبرُ "إنَّ"، و "شيئاً" منصوبٌ على المصدر، أي: شيئاً من الإغناء، و "منَ الحقِّ" نصبٌ على الحالِ من "شَيْئاً"؛ لأنَّهُ في الأصل صفةٌ له، ويجُوزُ أن تكون "مِن" بمعنى "بدل"، اي: لا يُغْنِي بدل الحقِّ، وقرأ الجمهور: "يَفْعلُون" على الغيبة، وقرأ عبد الله: "تَفْعَلون" خطاباً، وهو التفاتٌ بليغٌ، ومعنى الآية: إنَّ الظَّنَّ لا يدفع عنهم من عذَابِ الله شيئاً، وقيل: لا يقوم مقام العلم.
فصل
تمسَّك نُفاةُ القياس بهذه الآية، فقالوا: العملُ بالقياس عمل بالظَّنِّ، فوجب أن لا يجوز لهذه الآية، وأجيبوا: بأنَّ الدَّليل الذي دلَّ على وجوب العمل بالقياس، دليلٌ قاطعٌ، فكان وجوبُ العمل بالقياس معلوماً، فلم يكن العملُ بالقياس مظنوناً، فأجابوا: بأنَّه لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكماً لله - تعالى -، لكان ترك العمل به كُفْراً؛ لقوله - تعالى -:
{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } [المائدة:44] ولمَّا لمْ يكُن كذلك، بطل العمل به، ثم عبَّرُوا عن هذه الحُجَّة، فقالوا: الحكم المستفاد من القياس: إمَّا أن يعلم كونه حكماً لله - تعالى -، أو يظن، أو لا يعلم ولا يظن.
والأرض باطل، وإلاَّ لكان من لم يَحْكُم به كافراً؛ لقوله - تعالى -:
{ { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } [المائدة:44]، وبالاتِّفاق ليس كذلك.
والثاني: باطلٌ؛ لأنَّ الحكم بالظَّنِّ لا يجوز؛ لقوله - تعالى -: { إَنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً }.
والثالث: باطلٌ؛ لأنه إذا لم يكن ذلك الحكم معلوماً، ولا مظنوناً، كان مجرد التَّشهي، فكان باطلاً؛ لقوله - تعالى -:
{ { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلاَةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَاتِ } [مريم:59].
وأجاب مثبتُو القياس: بأنَّ حاصل هذا الدَّليل، يرجع إلى التَّمسك بالعمومات، والتَّمسُّك بالعمومات لا يفيد إلاَّ الظن، فإذا دلَّت العمومات، على المنع من التَّمسُّك بالظنِّ، لزم كونها دالَّة على المنع من التَّمسُّك بالظنِّ، وما أفْضَى ثُبُوته إلى نفيه، كان مَتْرُوكاً.
دلَّت هذه الآيةُ: على أنَّ كلَّ من كان ظانّاً في مسائل الأصول، ولم يكُن قاطعاً؛ فإنَّه لا يكون مؤمناً.
فإن قيل: فقول أهل السُّنَّة: أنَا مؤمنٌ - إن شاء اللهُ -، يمنع من القطع، فوجب أن يلزمَهُم الكفر.
فالجواب من وجوه:
الأول: مذهب الشافعي: أنَّ الإيمان عبارةٌ عن مجموع الاعتقادِ، والإقرارِ، والعمل، والشَّك إنَّما هو في هذه الأعمال، هل هي موافقةٌ لأمر الله - تعالى -؟ والشَّك في أحد أجزاء الماهيَّة، لا يوجب الشَّك في تمام الماهيَّة.
الثاني: أنَّ الغرضَ من قوله: إن شاء اللهُ، بقاء الإيمان عند الخاتمة.
الثالث: الغرض منه هضم النَّفْس وكسرُها.