التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ
٥٧
قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
٥٨
-يونس

اللباب في علوم الكتاب

قوله - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ } الآية.
اعلم: أنَّه - تعالى - لمَّا بيَّن أنَّ الرسول حقٌّ وصدقٌ بظهور المعجزات على يديه، في قوله:
{ وَمَا كَانَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [يونس:37] إلى قوله { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [يونس:38] وصف القرآن هنا بصفاتٍ أربع:
أولها: كونه موعظة.
وثانيها: كوه شفاءً لما في الصُّدُور.
وثالثها: كونه هُدًى.
ورابعها: كونه رحمة للعالمين.
قوله: "مِّن رَّبِّكُمْ" يجوز أن تكون "مِنْ" لابتداء الغاية، فتتعلَّق حينئذٍ بـ "جَآءَتْكُمْ"، وابتداءُ الغايةِ مجازٌ، ويجوز أن تكون للتَّبعيض، فتتعلق بمحذوف على أنَّها صفةٌ لـ "موعظة" أي: موعظةٌ كائنةٌ من مواعظ ربِّكُم.
وقوله: { مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } من باب ما عطف فيه الصِّفات بعضها على بعضٍ، أي: قد جاءتكم موعظةٌ جامعةٌ لهذه الأشياء كلِّها، و "شِفَاءٌ" في الأصل مصدرٌ جعل وصفاً مبالغة، أو هو اسمٌ لما يُشْفَى به، أي: يُداوى، فهو كالدَّواءِ لما يُدَاوى، و "لِمَا في الصُّدورِ" يجوز أن يكون صفةً لـ "شِفَاء" فيتعلق بمحذوفٍ، وأن تكون اللامُ زائدةً في المفعول؛ لأنَّ العامل فرعٌ إذا قلنا بأنَّه مصدرٌ.
وقوله: "لِلْمؤمنينَ" محتملٌ لهذين الوجهين، وهو من التَّنازُع؛ لأنَّ كلاًّ من الهُدَى والرحمة يطلبُه.
فصل
أمَّا كون القرآن موعظةً؛ فلاشتماله على المواعظِ والقصص، وكونه شفاءً، أي: دواءً، لجهل ما في الصُّدورِ، أي: شفاء لعمى القُلُوب، والصُّدُور موضعُ القلب، وهو أعز موضع في الإنسان لجواز القلب، قال - تعالى -:
{ { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [الحج:46] وكونه هُدًى، أي: من الضَّلالة، { وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ }، والرَّحْمَة: هي النعمة على المحتاج؛ فإنَّه لو أهدى ملكٌ إلى ملك شيئاً، فإنَّه لا يقال رحمة وإن كان ذلك نعمة؛ فإنَّه لم يصنعها إلى المحتاج.
قوله: { قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ }: في تعلُّق هذا الجارِّ أوجهٌ:
أحدها: أنَّ "بِفَضْلِ" و "بِرَحْمتهِ" متعلقٌ بمحذوفٍ، تقديره: بفضل الله وبرحمته ليفرحُوا، فبذلك فليَفْرَحُوا، فحذف الفعل الأول؛ لدلالة الثاني عليه، فهما جملتان.
ويدلُّ على ذلك قول الزمخشري: "أصلُ الكلام: بفَضْلِ الله وبرحمته، فليفرحوا، فبذلك فليفرحوا، والتَّكرير للتَّأكيد، والتَّقرير، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحدُ الفعلين؛ لدلالةِ المذكور عليه، والفاءُ داخلةٌ لمعنى الشَّرطِ، كأنَّه قيل: إن فرحُوا بشيءٍ، فليَخُصُّوهُمَا بالفرح، فإنَّه لا مفروح به أحق منهما".
الثاني: أنَّ الجارَّ الأول متعلِّقٌ أيضاً بمحذوفٍ دلَّ عليه السِّياقُ والمعنى، لا نفس الفعل الملفوظ به، والتقديرُ: بفضل الله وبرحمته، فليعتنُوا، فبذلك فليَفْرَحُوا، قاله الزمخشري.
الثالث: أن يتعلَّق الجارُّ الأوَّل بـ "جَاءَتكُم" قال الزمخشري: "ويجوز أن يراد: قد جاءتكم موعظةٌ بفضلِ الله وبرحمتهِ، فبذلك فليفرحوا، أي: فَبِمجِيئهما فليَفْرَحُوا".
قال أبو حيَّان: "أمَّا إضمار "فليَعْتنُوا" فلا دليل عليه". قال شهاب الدِّين: "الدَّلالةُ عليه من السِّياق واضحةٌ، وليس شرطُ الدَّلالةِ أن تكون لفظيَّة".
وقال أبو حيَّان: وأمَّا تعلُّقُه بقوله: "قَدْ جَاءتُكم" فينبغي أن يُقدَّرَ محذوفاً بعد "قُلْ"، ولا يكونهُ متعلِّقاً بـ "جَاءَتْكُم" الأولى؛ للفَصْل بينهما بـ "قُلْ"، وهذا إيراد واضحٌ، ويجُوزُ أن يكون "بِفَضْلِ اللهِ" صفةً لـ "مَوْعِظَة" أي: موعظةٌ مصاحبةٌ، أو ملتبسةٌ بفضل اللهِ.
الرابع: قال الحوفيُّ: "الباءُ متعلِّقةٌ بما دلَّ عليه المعنى، أي: قد جاءتكم الموعظة بفضل الله".
الخامس: أنَّ الفاء الأولى زائدةٌ، وأنَّ قوله: "بذلك" بدلٌ ممَّا قبله، وهو "بِفَضْلِ الله وبرحمتِهِ" وأُشير بذلك إلى اثنين؛ كقوله:
{ { لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ } [البقرة:68].
وقوله: [الرمل]

2907- إنَّ للخَيْرِ وللشَّرِّ مدًى وكِلاَ ذلكَ وجْهٌ وقَبَلْ

وفي هاتين الفاءين أوجهٌ:
أحدها: أنَّ الأولى زائدةٌ، وقد تقدَّم في الوجه الخامس.
الثاني: أنَّ الفاء الثانية مكررةٌ للتَّوكيد، فعلى هذا لا تكونُ الأولى زائدةً، ويكون أصل التَّركيب: فبذلك ليفرحوا، وعلى القول الأول قبلهُ يكون أصلُ التَّركيب: بذلك فليَفْرَحُوا.
الثالث: قال أبو البقاء: الفاءُ الأولى مرتبطةٌ بما قبلها، والثانيةُ بفعلٍ محذوفٍ، تقديره: فليَعْجَبُوا بذلك فليَفْرَحُوا؛ كقولهم: زيداً فاضربه، أي: تعمَّد زيداً فاضربه والجمهورُ على "فَلْيَفْرَحُوا" بياء الغيبة.
وقرأ عثمان بن عفان، وأبيُّ، وأنس، والحسن، وأبو رجاء، وابن هرمز، وابن سيرين: بتاء الخطاب، وهي قراءةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الزمخشري: "وهو الأصلُ والقياسُ".
قال أبو حيَّان: "إنَّها لغةٌ قليلة".
يعنى أنَّ القياسَ أن يُؤمَرَ المخاطب بصيغةِ "افعل"، وبهذا الأصل قرأ أبيُّ: "فَافْرَحُوا" وهي في مصحفه كذلك، وهذه قاعدةٌ كُلِّيَّةٌ: وهي أنَّ الأمر باللاَّم يكثر في الغائب، والمخاطب المبنيِّ للمفعول، مثال الأول: "لِيقم زيدٌ" وكالآية الكريمة في قراءة الجمهور، ومثال الثاني: لِتُعْنَ بحاجتي، ولتضرب يا زيد، فإن كان مبنياً للفاعل، كان قليلاً؛ كقراءة عثمان، ومن معه، وفي الحديث:
"لتأخُذُوا مصافَّكُم" بل الكثير في هذا النَّوْع الأمرُ بصيغة "افْعَلْ" نحو: قُمْ يا زيد، وقوموا، وكذلك يضعف الأمر باللاَّم للمتكلم وحدهُ، أو معه غيره، فالأول نحو: "لأقُمْ" تأمر نفسك بالقيام، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - "قُومُوا فلأصَلّ لكُم" ومثال الثاني: لِنَقُمْ، أي: نحن، وكذلك النَّهْي؛ ومنه قول الشَّاعر: [الكامل]

2908- إذَا ما خَرَجْنَا مِنْ "دِمشْقَ" فلا نَعُدْ لهَا أبَداً ما دَامَ فِيهَا الجُرَاضِمُ

ونقل ابنُ عطيَّة، عن ابن عامر: أنَّه قرأ: "فَلتَفْرَحُوا" خطاباً، وهذه ليست مشهورة عنه. وقرأ الحسن، وأبو التياح: "فَليَفْرَحُوا" بكسر اللام، وهو الأصل.
قوله: { هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } "هو" عائدٌ على الفضل والرَّحْمَةِ، وإن كانا شيئين؛ لأنَّهُمَا بمعنى شيء واحد، عُبِّر عنه بلفظتين على سبيل التأكيد؛ ولذلك أشير إليهما بإشارة واحدةٍ.
وقرأ ابن عامر: "تَجْمَعُون" بتاء الخطاب، وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون من باب الالتفات، فيكون في المعنى كقراءة الجماعة، فإنَّ الضَّمير يُراد من يُرادُ بالضَّمير في قوله: "فَلْيَفْرَحُوا".
والثاني: أنَّه خطاب لقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ } وهذه القراءةُ تناسبُ قراءة الخطاب في قوله "فَلْيَفْرَحُوا" كما نقلها ابنُ عطيَّة عنه أيضاً.
فصل
قال مجاهد وقتادةُ: فضل الله: الإيمان، ورحمته: القرآن. وقال أبو سعيدٍ الخُدريُّ - رضي الله عنه -: فضل الله: القرآن، ورحمته أن جعلنا من أهله.
وقال ابن عمر: فضلُ الله: الإسلام، ورحمته: تزيينهُ في القلب، وقال خالدُ بن معدان: فضلُ الله: الإسلام، ورحمته: السُّنَن.
وقيل: فضل الله: الإيمان، ورحمته: الجنَّة، { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } أي: لِيَفْرَحِ المؤمنون أن جعلهم من أهله، { هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } أي: خير ممَّا يجمعه الكُفَّار من الأموالِ؛ لأنَّ الآخرة خيرٌ وأبْقَى، وما كان عند الله، فهو أولى بالطَّلب.